بينما تُعبر رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بعد أيام من توليها رئاسة الحكومة، في يوليو/تموز الماضي، خلال حديث هاتفي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن رضاها بخصوص مستوى العلاقات البريطانية الروسية، يصف وزير الخارجية في الحكومة البريطانية، بوريس جونسون، روسيا بأنها "دولة مارقة" بسبب غاراتها الجوية في سورية، مطالباً، في خطاب أمام مجلس العموم، بضرورة تقديم "المسؤولين عن الجرائم في سورية إلى محكمة العدل الدولية".
إزاء هذه المواقف المتناقضة من أركان الحكومة البريطانية، وغياب صورة واضحة عن طبيعة العلاقات التي تنشدها لندن مع موسكو، قدمت لجنة برلمانية في مجلس العموم البريطاني، أول من أمس، تقريراً حول آفاق تطوير العلاقات الروسية البريطانية، تضمن توصيات مفاجئة مثل "عدم اعتبار روسيا عدواً لبريطانيا"، والكف عن اتهام الطيران الروسي بارتكاب جرائم حرب في سورية، وإجراء "حوار حذر" من أجل تحسين العلاقات مع موسكو، التي تدهورت إلى أدنى مستوى لها منذ انتهاء الحرب الباردة.
ومع أن التقرير، أوصى بضرورة الحفاظ على العقوبات ضد روسيا، حتى بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإنه دعا بالتوازي مع ذلك إلى مراجعة مجمل العلاقات الثنائية بهدف تحسينها. وانتقد التقرير نهج وزارة الخارجية البريطانية، بقيادة بوريس جونسون، تجاه روسيا، باعتبار أن الجانب البريطاني "لا يعرف ماذا يريد". وقالت اللجنة إن على وزارة الخارجية البريطانية توضيح غاياتها من الحوار الثنائي مع روسيا، لا سيما في ملفات مكافحة الإرهاب، والأمن الإلكتروني، والسلامة الجوية. ودعت وزارة الخارجية إلى إجراء حوار بناء ومنتظم، أساسه النزاهة مع موسكو، معتبرة أن غياب مثل هذا الحوار يدل على "قصر نظر" من جانب لندن. وإزاء التخبط الحكومي، اقترح البرلمانيون استحداث منصب وزير جديد للتعاون مع روسيا. وربط النواب أهمية استحداث المنصب الجديد، بتراجع عدد الخبراء المعنيين بالشؤون الروسية في وزارة الخارجية البريطانية بقدر كبير منذ انتهاء الحرب الباردة، ولذلك تعد قدرات لندن على التعامل مع الكرملين غير كافية، خصوصاً في المرحلة الحساسة الحالية. وحسب التقرير فإن عدد الموظفين في قسم وزارة الخارجية البريطانية المعني بالعلاقات مع روسيا لا يتجاوز 5 أو 6 أشخاص، كما يتولى ملف روسيا في وزارة الدفاع البريطانية موظف واحد فقط، فيما كان الفريق البريطاني العسكري المعني بهذا الموضوع أثناء الحرب الباردة يضم 20 شخصاً.
ويرى مراقبون في لندن، أن التقرير البرلماني، قد يساعد حكومة تيريزا ماي على شق أفق جديد في العلاقات مع روسيا، التي امتازت خلال السنوات الأخيرة بتوتر بارد، لا سيما بعد توجيه لندن اللوم إلى الرئيس الروسي بوصفه من أعطى الأوامر لاغتيال المعارض الروسي، ألكسندر ليتفينينكو، في لندن في العام 2006. وتصاعد التوتر "السياسي" بين البلدين بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ومشاركتها في القتال في أوكرانيا، ودعم موسكو للنظام السوري، وهو السلوك الذي دفع لندن إلى اعتبار أن "روسيا أصبحت أكثر عدوانية، وأكثر استعداداً لتقويض المعايير الدولية... وبات النظام القومي السلطوي القائم في موسكو تحدياً لقواعد الأمن الأوروبي والدولي"، كما ورد في وثيقة "مراجعات الدفاع الاستراتيجي والأمن-2015 " للحكومة البريطانية. غير أن "الغضب" البريطاني، لم يتجاوز حدود تجميد الحوار الاستراتيجي بين البلدين، والمشاركة في العقوبات الغربية ضد روسيا.
ورغم كل عوامل التوتر التي تراكمت على خط لندن- موسكو، خلال السنوات العشر الماضية، إلا أن الأوساط البريطانية تستبعد أن تسوء العلاقات بينهما إلى حد "كسر العظم"، أو المواجهة المباشرة، إذ تدرك تيريزا ماي حجم التحديات التي تواجهها المملكة المتحدة بعد قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأهمية روسيا "في تجاوز تلك الصعوبات" كشريك تجاري مُحتمل، وجسر تجاري مفتوح على القوى الاقتصادية العالمية الناشئة في الشرق والغرب، يُمكن الاستفادة منه بعد خروج "قاسٍ" لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وما بين صراخ جونسون "الإعلامي"، وإدراك تيريزا ماي لحقيقة قدرات بريطانيا ما بعد "بريكسيت"، يأتي تقرير اللجنة البرلمانية لرسم آفاق العلاقات البريطانية الروسية في حدود "الصبر من دون التراخي" و"المواجهة دون الحرب"، على حد تعبير المحلل السياسي في صحيفة "فايننشال تايمز"، فيليب ستيفنس، والسعي إلى تحسينها، ولو من بوابة المشاركة في "مونديال موسكو 2018"، باعتباره فرصة جيدة لاستئناف الاتصالات الثنائية، كما أوصى تقرير اللجنة البرلمانية البريطانية.