أين تقع سوريّة؟

05 فبراير 2017
+ الخط -

رغم سذاجة هذا السؤال، إلا أنه راودني بقوّة بعد الاعتصام الأول الذي نظمته لجان الدفاع عن الحريّات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريّة، بتاريخ 8/3/2004، أمام مقرّ مجلس الشعب في قلب العاصمة دمشق.

وكان هذا الاعتصام هو الأول من نوعه الذي تدعو إليه اللجان، والأول من نوعه الذي شاركتُ فيه، وجعل هذا السؤال يراودني طوال الطريق من الحسكة حيث أقيم، إلى دمشق حيث مكان الاعتصام الذي تمّ الإعلان عنه علناً قبل فترة جيدة من تنفيذه، وكذلك خلال الأحداث التي جرت خلال الاعتصام وما تلاه. وما جعله يعود إلى ذهني مجدداً هو الأحداث التي نعيشها منذ شهر مارس/آذار من عام 2011 ولحد الآن.



كنّا قد اتّفقنا أن نذهب فرادى إلى مكان الاعتصام. وكان عليّ أنا ونضال درويش، أن نستقلَّ الحافلة منتصف ليل الخميس؛ كي نصل إلى دمشق في الثامنة صباحاً على أبعد تقدير. وفي السابعة صباحاً، كنا في مدخل مدينة دمشق، حيث أوقفت الحافلة حاجز عسكريّ. وصعد ضابط برتبة عميد إلى الحافلة وأخذ المانفيست الخاص بأسماء ركاب الرحلة، ثمّ سأل السائق:

- من وين جايين؟

- من المالكيّة سيدي. أجاب السائق. والمالكية تبعد عن الحسكة أربع ساعات، وبالتالي تبعد عن دمشق ما يقارب 12 ساعة.

فأمره الضابط بالعودة بالحافلة والركاب إلى المالكيّة مباشرة. وهدّده، بشتائم وألفاظ نابية، بعدم الوقوف طوال الطريق، وإلا سيتعرّض، هو ومالك شركته، للتوقيف والسجن.

كل من في الحافلة أصابته الدهشة. إذ كيف نعود أدراجنا، إلى الحسكة والقامشلي والمالكية، هكذا ببساطة دون أن نكمل طريقنا إلى دمشق؟ ولماذا؟ وماذا حصل في دمشق؟

رفع أحد الركّاب إصبعه، كطالب في المدرسة، وطلب الإذن من الضابط بالكلام. وقال:

- يا سيدي. أنا أمي قادمة لوحدها إلى المطار من السعوديّة. وأنا ذاهب لاستقبالها والعودة بها إلى الحسكة. وهي مسنّة ولا تعرف أحداً هنا. فأرجوك اسمح لنا بإكمال طريقنا إلى دمشق، أو اسمح لي وحدي بالنزول وتكملة الطريق إلى الشام ولو مشياً.  فردَّ عليه الضابط مباشرة:

- اخرس ولاك. تضرب أنت وأمّك!

 
فقفزَ آخر دون أن يأخذ إذناً هذه المرة بالكلام وقال:

- أنا معي أبي العجوز هذا يا سيدي، وأخذنا موعداً قبل شهر من المشفى لكي نكون فيه اليوم لإجراء عملية قلب مفتوح له، وإذا لم نكن هناك اليوم طار دورنا وطارت العمليّة. فردّ عليه الضابط بدم بارد:

- البقية بحياتك!

فما كان مني عندما نزل الضابط، بعد أن شتم أم السائق وطلب منه العودة، وبدأت الحافلة بالعودة إلا أن قلت لنضال، وهو زميلي في مجلس أمناء لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، بأنّ هذه الإجراءات هي بسبب اعتصامنا هذا، لذلك علينا أن نقول للضابط بأننا أنا وأنت فقط ذاهبان للاعتصام، وليعتقلنا، وبذلك يسمح للحافلة أن تذهب بركابها الثلاثة والأربعين الباقين إلى أشغالهم في دمشق، بدلاً من هذا العقاب الجماعي بسببنا لأناس لا ذنب لهم. ضحك نضال. وقال إنه من غير المعقول بأن تكون هذه الإجراءات، في تعطيل مصالح الناس وعقابهم جميعاً، هو من أجل إفشال الاعتصام الذي دعونا إليه. وكانت وجهة نظره معقولة؛ إذ من غير المعقول فعلاً اتخاذ كل هذه الإجراءات، ومعاقبة كل هؤلاء المواطنين البريئين، من أجل اعتصام صغير أمام مبنى البرلمان لا علاقة لهم به. ولكنّنا عرفنا فيما بعد أنّ وجهة نظره كانت خاطئة؛ فقد تمّ منع جميع الرحلات القادمة إلى دمشق براً من الصباح الباكر وحتى الثانية عشرة ظهراً، من حلب وحمص والساحل ودرعا ودير الزور والسويداء، وإعادة كل الرحلات تلك إلى المكان الذي انطلقت منه، دون السماح للحافلات بدخول دمشق نهائياً، بسبب اعتصامنا هذا.


بعد مسافة عدّة كيلومترات انصاع سائق البولمان لرجاءات الركاب بالتوقف وإنزالهم للعودة من دونه إلى دمشق. وقد فعل ذلك بعد أن حلف الجميع بأنه لن يقول أحد لذلك الضابط، إذا أوقفه وسأله، بأنه كان ضمن الرحلة الفلانيّة القادمة من المكان الفلاني. وهكذا نزلنا وركبنا سيّارات الأجرة، التي لا ندري كيف عرفت بالفرمان العسكريّ ذاك فذهبت إلى مداخل دمشق المختلفة كي تسترزق على حسابنا، التي لم يقم أحد بتفتيشها أو إنزال الركاب منها! واستطعنا الوصول إلى دمشق بعد تأخرنا لساعتين إضافيّتين، ودفع ثمن لرحلة من خمسة كيلومترات تفوق بثلاث مرات ثمن الثمانمائة كيلومتراً التي قطعناها سابقاً بالحافلة.


كانت الحركة غريبة في كل الطرقات التي قطعناها نحو قلب العاصمة باتجاه مقهى الروضة، القريب جداً من مكان الاعتصام. كانت هناك كثافة لرجال الشرطة في كلّ مكان. وكان هناك عدة مئات من الجنود أمام مبنى وزارة الداخليّة. لدرجة أننا ظننا، أنا ونضال، بأنّ انقلاباً ما قد حصل، أو أن هناك شخصية مهمة تزور البلاد، وستقوم بجولة مع سيادته في شوارع معينة من العاصمة دمشق. سألنا السائق عن سبب الحشود الغريبة للجنود في كلّ الشوارع، إلا أنه لم يردّ على تساؤلنا سوى بالقول: الله يستر.

كنّا أقل من خمسين شخصاً في الاعتصام. رفعنا لافتات من الورق المقوّى كتبت عليها شعارات تنادي بالحريّة لمعتقلي الرأي، وبالديمقراطيّة لكلّ السورييّن، وبوضع قوانين عصرية لكل مناحي الحياة في البلاد واحترام تنفيذها، واحترام حقوق الإنسان للمواطن السوري وفق المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان... إلخ. كنا نقف بهدوء مقابل مبنى البرلمان، وكان هناك الكثير من الجنود والضباط والسيارات العسكريّة التي أغلقت الشوارع المؤدّية إلى مكان الاعتصام. وكان هناك الكثير من الشبّان المدنييّن يحملون العصي في الشوارع الجانبيّة، عرفنا، فيما بعد، بأنهم طلاب تمّ جلبهم من المدينة الجامعيّة إلى هناك، وينتظرون إشارة معيّنة للانقضاض علينا.

كنا نقف بهدوء رافعين شعاراتنا فوق صدورنا صامتين دون أيّ هتاف، ودون أي خوف.

جاء إلينا أحد الضباط الكبار، مع ثلة من الضباط الصغار، وطلب منا فضّ الاعتصام فوراً، وإلا سيعتقلنا لأننا لم نأخذ الإذن بذلك. ردّ عليه رئيس اللجان، أكثم نعيسة، بأنّ الحقوق المذكورة في الدستور لا تستدعي إذناً من أحد، وبأننا لا نخاف من الاعتقال. فما كان من الضابط سوى أن رفع العصا، التي كانت في يده عالياً، ثمّ أنزلها بقوّة، فتوقعنا بأنّ هناك رماة للسهام قد جاءتهم الإشارة لدخول المعركة. وبالفعل فقد هجم علينا الجنود وطلاب المدينة الجامعيّة وهم يهتفون بحياة القائد. ضربونا بالعصيّ والقبضات ضرباً مبرّحاً وعشوائياً لم تسلم منه حتى الفتيات اللواتي اعتصمن أيضاً. وتم سحل بعض المعتصمين في الشارع. وسمعنا بعض الناس الذين كانوا يتسوقون يصرخون في وجوه الجنود: "لك حرام عليكم. شو عملوا حتى تضربوهم. والله كانوا حضاريين كتير فليش عم تضربوهم؟". فتمّ الاعتداء على بعض المارة أيضاً واعتقالهم.

كنت أحمل لافتة من الورق المقوى على صدري مكتوباً عليها: "نعم لسورية الديمقراطية الخالية من سجون الرأي". "نعم لسورية الحرّة الديمقراطيّة لكلّ السوريّين". والطالب الجامعي الذي خطف اللافتة مني بعنف وقام بتمزيقها، مزّق قميصي الربيعيّ أيضاً قالعاً كلّ أزراره بحركته التي يبدو أنه تدرّب عليها كثيراً. وعندما بدأ بالدعس على مزقات الورق المقوّى، قلت لهُ بدمٍ بارد: "لاحظ إنك عم تدعس على اسم سوريّة". فردّ عليّ:
- ... عليك وعلى سوريّة.
 
إذا، كنا نحن المعتصمين خونة، ويقومون بضربنا لإعادتنا إلى رشدنا، كي نكون مثلهم فدائيين للوطن، فلماذا يشتمون الوطن؟. وإذا كانوا يشتمون سوريّة علناً أمامنا، لأننا أردنا أن تكون سورية حرة وديمقراطية ومتمدنة... فمن هم؟

كنتُ متأكداً بأنّ هؤلاء ليسوا سوريين لأنهم يشتمون سورية. لأنه قال أمام الضباط والجنود والمارة والخونة "خراي على سورية" ولم يعتقله أحد، أو ينهره على الأقل. ولكن من أين جاء هؤلاء إذا كانوا يشتمون سورية علناً؟ وكنتُ أسأل نفسي بعد انفضاض الاعتصام بالقوّة والاعتقال: أين تقع سوريّة التي تخصّهم؟


وفي هذه الأيام، نجد أن الشعار الكبير الذي استعمله الموالون للنظام، ضد الثوّار السلميين المطالبين بالحريّة والعدالة لجميع السورييّن، يذهب في نفس الطريق: الأسد أو نحرق البلد.

avata
avata
عارف حمزة
عارف حمزة

مدونات أخرى