أيخاف السينمائي العربي بوحاً ذاتياً؟

15 يونيو 2020
جان ـ بول بلموندو: متعة الحياة (سيلفان لوفافر/Getty)
+ الخط -
يغيب عن المكتبة السينمائية العربية تقليدٌ يشهد رواجاً في الغرب: مذكّرات عاملين في صناعة السينما. في الغرب، تتساوى المذكّرات بالسِيَر والحوارات (الصادرة في كتب)، أهميةً ومتابعة. فيها، يتداخل الشخصيّ بالمهنيّ، ولا بأس بقليل أو كثيرٍ من الحميميّ أيضاً. في الغرب، يُمكن للسينمائيّ أنْ يبوح بأمورٍ خاصّة جداً. هذا لن يكون قاعدة ثابتة، فلكلّ واحدٍ مزاج أو رأي أو أسلوب تعاطٍ مع الحميميّ. لكنّ الغربيّ منفتح على ذاته، بتناقضاتها ومسالكها وهواجسها وتبدّلاتها ومشاعرها، وبعض هذا حاضرٌ في اشتغالاته أيضاً.

عربياً، المسألة معقّدة، إذْ يندر أنْ يخطو سينمائيّ خطوة كتلك. السِيَر الحياتية شبه غائبة، ولهذا أسبابٌ لعلّ أبرزها انعدام الاهتمام الثقافي بها، أو وطأة العمل اليومي لصحافيين ونقّاد يهتمّون بعمل كهذا يحتاج إلى ميزانيات أيضاً، أو إصرار عربيّ عام على فصل الحياتيّ عن المهنيّ. المأزق العربي كامنٌ في تربية وسلوك اجتماعيين. السُمعة الشخصية أهمّ من البوح. الصورة التي يُفترض بصاحبها أنْ يروّجها عنه أهمّ من حقائق ووقائع. الردّ الذي يوحّد كثيرين، يسأل: "لماذا تريدون معرفة الحميميّ؟ بماذا يعنيكم الشخصيّ؟ ألا يكفيكم المهنيّ؟".

يصعب فصل الشخصيّ عن المهنيّ في ذات شخصية عامّة. السينما، كمهنٍ أخرى مختلفة، تكاد تُلغي كلّ حد بينهما. يندر العثور على عاملين في السينما الهوليوودية (مثلاً) يعزلون كلّياً حياتهم العائلية والشخصية عن الخارج. رغم هذا، يروي بعض هؤلاء نتفاً من حياة ومهنة، وبعض الحياة حميميّ أيضاً. عربٌ كثيرون غير منتبهين إلى رواية الذات، وغير مكترثين بمعنى السلوك الفردي، وغير راغبين في كشفٍ يظنّون أنّه يُبدِّل من علاقة جمهورهم بهم. لن يكون المطلوب سرد أسرارٍ وخفايا. الحميميّ يعني أمور الانفعال والحبّ والرغبة والتناقضات والكراهية والتفاصيل التي تصنع جزءاً كبيراً من شخصية المرء. الحميميّ ينعكس في ارتباط المرء بأهلٍ وأقارب وأصدقاء ومعارف، وباجتماع وتأثّرات وثقافات وتربية، وبعداوات وتواصل. ألهذا يخشى العربيّ بوحاً ذاتياً؟

هذا ربما يكون "رواية رسمية" لكاتبها، لكنّها رواية تكشف شيئاً من نفس وروح وانفعالٍ.
للمذكّرات قيمة أدبية وإنسانية وثقافية، إلى جانب تمكّنها من تفسيرٍ ما لسلوك كاتبها إزاء مهنة يختارها لاحقاً. هذا سلوك منبثقٌ من تربية، تمنحه القدرة على تكوين مفاهيم تدفعه إلى خياراتٍ وتمنعه عن أخرى. هذا ما يرويه الممثل الفرنسي جان ـ بول بلموندو (مثلاً) في "ألف حياة أفضل من واحدة" ("كتاب الجيب"، 2018). يغوص في علاقته بوالديه، وبتفاصيل يومية تساهم، بأشكال مختلفة، في تكوين وعيه التمثيلي. هذا غير عابر، لأنّه جزءٌ من بناء الشخصية، المؤدّي إلى السينما. الحكايات التي يسردها تعكس جوانب كثيرة من تفاعله مع العوالم التي يتعرّف عليها في طفولته ومراهقته وشبابه، ومن التأثّرات التي يتلقّاها في مراحله العمرية تلك. المغامرات والمقالب والعلاقات والانفعالات مسائل فاعلة في نصّ مبسّط وجميل وعميق، يكشف ويبوح بسلاسة ومرح وانفتاح.
هذا مرغوبٌ أيضاً في السينما العربية.
المساهمون