بعدد يقترب من خمسة ملايين طفل وفقاً لإحصاءات وزارة التضامن الاجتماعي المصرية، تُعَدّ مصر من بين الدول العربية الأبرز لجهة عدد الأيتام. وبينما يعيش بعضهم مع عائلاتهم الممتدة، وآخرون في نحو 470 دار أيتام منتشرة بالمحافظات، فإنّ نحو نصف مليون يتيم يعيشون في الشوارع.
تكثر الشكاوى من دور رعاية الأطفال الأيتام في البلاد، وتنشر وسائل الإعلام المحلية كلّ مدة خبراً عن وسائل التعذيب لأطفال أجسادهم نحيلة، ولا يستطيع أحد تحمّل ما يتحمّلونه من ضغوط يومية. تتعدد تلك الوسائل، من بينها الضرب المبرح بطرق مختلفة وفي مناطق متفرقة من الجسد، مع الحرق والتجويع، واللسع باستخدام آلات حادة مثل تسخين السكين على النار، من دون رأفة بهم وبألمهم وصراخهم. ويمتدّ التعذيب إلى العضّ الوحشي في الأيدي والأرجل، مع إحداث جروح قطعية بأجسادهم، وحلق شعرهم، وسكب الماء البارد والساخن عليهم. وتؤدّي وسائل التعذيب بالأطفال إلى مشكلات بدنية ونفسية لديهم.
شهدت الأعوام الماضية قضايا مأساوية عدّة في دور الأيتام، وهي ما زالت مستمرة حتى اليوم، ويؤكد مسؤول مصري لـ"العربي الجديد" تحفّظ عن ذكر هويّته، أنّ "ما يُعلَن عنه من مآسٍ في داخل دور رعاية الأطفال، لا يمثّل إلا واحد في المائة من حجم الانتهاكات الحقيقية التي تحدث يومياً، مطالباً بتطبيق سياسات وإجراءات الحماية المنصوص عليها في قانون حماية الطفل، كذلك يجب السماح للجمعيات الرقابية أن يكون لها إشراف مفاجئ على دور الرعاية". بالنسبة إلى ذلك المسؤول نفسه، فإنّ "السياسة المتبعة في حلّ مشكلات تلك المؤسسات ليست أكثر من مسكّنات من دون حلول واقعية".
من جهته، يكشف المسؤول في إحدى دور الرعاية، ياسر السيد، لـ"العربي الجديد" أنّ "ثمّة سلخانات (ضرباً جماعياً) يومية تجري داخل دور رعاية الأطفال، لا يُكشَف عنها إلّا بالصدفة، خصوصاً في حال وجود زائر يسجّل مقاطع فيديو بالهاتف المحمول ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بروز جريمة كبرى مثل الموت تتطلب تدخُّل الجهات الأمنية والقضائية". ويؤكد السيد أنّ "وزارة التضامن الاجتماعي المسؤولة عن دور رعاية الأطفال لا تؤدّي دورها في المرور اليومي على مناطق دار الأيتام بالمحافظات"، لافتاً إلى أنّ "ثمّة كاميرات في داخل الدور لمتابعة العمل، لكنّها معطّلة بفعل فاعل حتى لا تُرصَد جرائم العاملين فيها اليومية ضد أطفال لا حول لهم ولا قوة". يضيف السيد أنّ "وزارة التضامن تختار في يوم الطفل اليتيم عدداً من المناطق للتصوير كاستعراض إعلامي لا غير، من أجل جذب رجال الأعمال والمقتدرين كي يقدّموا تبرّعاتهم، بينما تتولى الوزارة توزيع ملابس جديدة على الأطفال كنوع من الدعاية. لكنّ تلك الدعاية تحفي أوضاعاً مزرية كثيرة وأخباراً سيّئة عن وضع الأيتام في مصر".
ويتابع السيد أنّ "السنوات الأخيرة شهدت زيادة في المخالفات في داخل دور رعاية الأطفال الأيتام، لتشمل الانتهاك الجسدي والنفسي والاستغلال الجنسي والمادي، كذلك تقلّص دَور منظمات المجتمع المدني نتيجة التضييق عليها من قبل النظام وسيطرة الدولة على العمل الأهلي ومنع التمويل وتعطيل المبادرات، بزعم أنّها تعمل على دعم الإرهاب وتمويله". لكنّ السيد ينتقد في الوقت نفسه "استغلال بعض الجمعيات للأيتام بهدف المتاجرة بهم والتربّح من ورائهم من خلال تلقّي الدعم والتبرّعات من خلال الإعلانات. ولا نعلم أين تذهب تلك الأموال الضخمة التي تُجمَع من جيوب المصريين، فلا رقابة جادة وواضحة من قبل وزارة التضامن لمتابعة تلك الدور".
في السياق، تقول رئيسة الجمعية القانونية لحقوق الطفل والأسرة، دعاء عباس، لـ"العربي الجدي" إنّ "اليتيم في مصر لا يتلقى أدنى مستوى من الرعاية. كذلك فإنّ إغلاق دور أيتام عدّة كانت منظمات المجتمع المدني تشرف عليها، عقب أزمتها مع الحكومة، أدّى إلى ازدحام الأطفال بعدد من دور الرعاية التي تشرف عليها وزارة التضامن، وهذا ما فاقم معاناة الأيتام". وتوضح عباس أنّ "هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى مظلة اجتماعية أكثر شمولاً من قبل الحكومة"، لافتة إلى أنّ "انعدام الرقابة الذي يُعَدّ من أبرز المشكلات التي تجعل كلّ شيء مباحاً في داخل دور رعاية الأطفال". تضيف أنّ "الخطر الأكبر هو على الأيتام المشرّدين، وهم بلا شكّ من الفئات الأكثر احتياجاً".
وتتابع عباس أنّ "قانون رعاية الأطفال الأيتام ينصّ على رعايتهم صحياً واجتماعياً ونفسياً وتثقيفهم وتعليمهم حتى الثامنة عشرة بالنسبة إلى الذكور وحتى سنّ الزواج للإناث، لكنّ ما يحدث هو عكس ذلك تماماً، ودور الرعاية صارت بمعظمها مرتعاً لذوي النفوس الضعيفة ليفعلوا بها ما يشاؤون". وتطالب عباس بـ"إنشاء منظومة متكاملة لمراقبة تلك المؤسسات، تشتمل على برامج لتقييم الدور والأطفال المقيمين فيها صحياً ونفسياً، ومحاسبة المسؤولين عنها عند تقصيرهم ومحاكمتهم، على أن تقوم لجان حماية الطفل الموجودة في كلّ حيّ بجولات مستمرة على هذه الدور وتراقب أداءها من دون إذن مسبق ومن دون إبلاغ مسبق بالزيارة".
أمّا أستاذة علم الاجتماع في جامعة "عين شمس" الدكتورة سامية الساعاتي، فتؤكد لـ"العربي الجديد" أنّ "الانتهاكات التي يتعرّض لها الطفل في داخل بعض دور الأيتام تحدث بسبب غياب الرقابة والضمير الإنساني"، مشدّدة على أنّ "تلك الانتهاكات تؤذيه نفسياً ويتحوّل مع كِبر سنّه إلى شخص غير سويّ". وتعبّر الساعاتي عن حزنها "لما وصلت إليه حال الأيتام في مصر"، لافتة إلى أنّ "غياب الرقابة الكافية عن دور رعاية أيتام عدّة تسبّب في حدوث بعض التجاوزات التي تهدر حقوق الطفل اليتيم أو مجهول النسب". وتوضح الساعاتي إلى أنّه "مع حلول شهر إبريل/ نيسان من كلّ عام، تتبارى مؤسسات حكومية وشخصيات العامة في الاحتفاء باليتيم وتوزيع الهدايا، متناسية أنّ اليتيم موجود في المجتمع طوال العام سواء في دور رعاية الأيتام أو بيوت المصريين". وتلفت إلى أنّه "في الآونة الأخيرة، انتشر الأطفال من مجهولي النسب من خلال العثور عليهم بعد إلقائهم في الشوارع وأمام المساجد وفي صناديق القمامة، خوفاً من الفضيحة وهرباً من المسؤولية، وزاد عددهم في داخل دور الرعاية المصرية".