بدأ كيومٍ مشرقٍ خارجاً، ملبدٍ داخلاً ككل الـ429 يوماً، وبعد أربعة أيام من التنقّل ما بين سجن شديد الحراسة في أبو زعبل الجنائي "ليمان1"، إلى سجنٍ آخر أقلّ تشديداً منه في ذات السجن "ليمان2"، جاء ترحيلنا الأول يوم الخميس الموافق 16 أكتوبر/تشرين الأول من "ليمان1" في أبو زعبل الجنائي إلى "ليمان2". وبعد أن قمنا بتنظيف وتجهيز وفرش زنزانتنا الجديدة، وهذا لمَن لا يعلم يأخذ وقتاً وجهداً لا بأس بهما، أتت المفاجأة التي لم نتوقعها من شاويش عنبرنا الجديد يوم الأحد الموافق 19 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد أربعة أيام من تواجدنا في "ليمان2"، ليخبرنا بأن نُجهّز أنفسنا للانتقال إلى مكان آخر، لم يفصح عنه وقتها، علمنا في وقتٍ لاحق أنه سيكون سجناً عمومياً مركزياً، ووصل إلى مسامعنا آنذاك من زملاء لنا أنه مكانٌ لا يُطاق احتماله، توكلّنا على الله ونحن نُوقن أنه لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فاطمأنت قلوبنا.
وبالفعل بدأ نقلنا إلى هذا السجن تحت حراسة مُشدّدة غير مسبوقة، أَوْهَمَتْنا للحظة بشدة خُطورتنا التي ليس لها وجود على أرض الواقع، ولكنه خوفُ الظالم ممن ظلمه.
بعد رحلةٍ شاقة استغرقت الساعتين، وصلنا إلى أسوار سجنٍ جديد ونظامٍ جديد وحياةٍ يلفّها الغموض والسراب. هناك تُركنا داخل زنزانة متحركة يُقال لها "سيارة شرطة- بوكس" ما يقرب من ساعتين أخريين، وبعدها سُمح لنا بجولة.. وبدأت المعاناة.
إمعاناً في إذلالنا وقهر كبريائنا، الذي يُغيظهم دائماً، تم تجريدنا من ملابسنا تماماً، وهذا ما لم نقابله في السجون الثلاثة السابقة، التي قضينا فيها اعتقالنا، حيث إننا قضينا زمناً آخر في سجن أبو زعبل العسكري، قيل لنا سبب التجريد أنه للتفتيش ببساطة وعدم مبالاة، وعندما اعترضنا تم تحذيرنا أنّ هذا نظام السجن هنا ولا يجب الاعتراض عليه بتاتاً. وبعد الانتهاء من تفتيشنا وتفتيش حقائبنا قطعة قطعة، وضعونا في مكانٍ تحت الأرض مُصمت حيث لا حياة.
مكانٌ مظلم مُقفر كريهُ الرائحة.. ممرّ طويل لا ينتهي، بؤر معاناته تقبع على جانبه الأيسر، فترى بصعوبة شديدة زنازين صغيرة جداً تكاد لا تُرى بسبب هذا الضوء الأصفر الخافت القبيح، ثم أدخلونا إحدى هذه الزنازين القميئة.
تُسمى هذه الزنازين بـ(الدواعي الأمنية)، أما إذا أردتَ أن أصفها فليس هناك وصف مناسب أكثر ممّا يُسميها المعتقلون هنا بـ(زنازين التُرَب)/ المقبرة، هي فعلاً هكذا بكل مَا تحمل الكلمة من معنى.. لا هواء، لا ماء، لا طعام، ضيقة كاللحد، لا راحة في جلوس أو استلقاء، النوم متناوب بين رفقاء الزنزانة الأربعة، فإذا استبدّ بنا التعب والإرهاق نمنا جالسين نحتضن أرجلنا كوسائد لرؤوسنا، فإذا حان ميقات الصلاة صليناها فوق بعضنا البعض من دون سجود، هذا فضلاً عن الحضور الطاغي لأنواع مختلفة من الحشرات.
الـ24 ساعة تمضي ببطء قاتل، لم نكن نعرف الوقت إلا من خلال ساعات معاصمنا، أو الأذان الذي يصدح من زنازين بعيدةً عنا، فوق أرضنا بأمتارٍ قليلة، فكلما تضيق المساحات يطول معها الوقت أكثر، ويمرّ بطيئاً مُوهناً أكثر. بقينا هناك 4 أيام متواصلة لا ندري أنبقى أم لنا مخرج، وغيرنا بقي فيها سنين طويلة من عمره، التحم معها واستسلم لها، في يوم الخميس الموافق 23 أكتوبر/تشرين الأول جاء خلاصنا، تم نقلنا إلى سجن استقبال طرة، ننتظر خلاصاً من نوع مختلف.
أيام حُفرت في الذاكرة الدائمة التي لن تُنسى إلا بموتنا. وأختم حديثي بهذه الكلمات التي طالما تذكّرتها عندما أمرّ ببلاءٍ حيث قال لي صديقٌ في القِدم: "يذهب الألم ويبقى الأجر".
*معتقل مصري منذ أحداث رمسيس الثانية بتاريخ 16 أغسطس/آب 2013، وتم الحكم عليه بالسجن المشدد 15 عاما وغرامة 5 آلاف جنيه، ويقضي محكوميته الآن في سجن استقبال طرة.