لا أدري ما سر أو سحر تلك الحانة وأولئك "الطاوليين"! لم أدرِ سوى أني علقتُ في ذلك الفخ اللذيذ، ومع أناس أصغرهم يكبرني بعشرين عامًا. حتى إني، طيلة الفترة التي قضيتها في بيروت، لم أذهب إلى الملاهي والحانات التي اعتدت ارتيادها سابقاً مع أترابي. ولا حتى إلى المراقص الشبابية العامرة بالصخب والفتيات الطازجة.
تقع حانة آرتين في زقاق ضيقٍ متفرِّع من "شارع الحمرا"، ولأنها تحت مستوى الطريق لا ينتبه إليها سوى محترفي السهر؛ الذين يهتدون إلى أماكن السِكْر كاهتداء الرضيع إلى الثدي. تنزل إليها بثلاث درجات فتستقبلك صورة لجورجينا رزق، ملكة جمال لبنان والعالم عام 71، وبجانبها آرتين معتمراً قبعة مكسيكية تظلِّل سالفيه المرسومين كجزمة عسكرية، فيما قميصه اللماع الضيق، يُفَصِّل تضاريس كرشه بوضوحٍ يفوق وضوح بطن ملكة الجمال العاري.
اقــرأ أيضاً
تلك الصورة، إضافةً إلى كونها فخر آرتين ومفتاح ذكرياته لأيام العز، كانت بمثابة إعلان عن أنك داخل إلى سبعينيات القرن الماضي، فالصور التي تملأ الجدران والإضاءة والديكور والكراسي والطاولات والبار، كانت تضفي على المكان سحر حقبة جميلة لعلها أفضل حقبات التاريخ الإنساني على الإطلاق:
- "إنها السنوات التي وصل فيها الإنسان إلى الذروة... إلى فتح آفاق الأحلام التي كانت تتعاظم وتتحقق كالسحر".
يقول آرتين ذلك، فيما الحنين يرقرق عينيه كانعكاس الماء في ظهيرة يوم مشمس، ثم يستفيض وكأن تلك الحقبة كانت إحدى إنجازاته الخاصة: "في نهاية السبعينيات انتهت الأحلام، انتهى عصر استخدام الإنسان للتكنولوجيا وابتدأ المسار العكسي؛ صار عقل الإنسان يعمل ضد الإنسان. فبعدما كان التطور العلمي وسيلة للرفاه والترقي، أصبح اليوم طريقًا للعودة الى بدائية الغرائز. وبرأيي، أنا آرتين الخمار، يجب على البشرية أن تضع حدًا للتطور العلمي وتلتفت قليلًا إلى هذا المسخ الذي صاره الإنسان".
اقــرأ أيضاً
أعجبني وصفه لتلك الحقبة، وزادت قناعتي بأن آرتين أكثر من خمَّار وبأنه محق عندما يعتبر نفسه واحدًا من أدباء الطاولة. واكتشفت أن الحانة ومحتوياتها، هي جزء لا يتجزأ من شخصيته. حتى ماكينة "الفليبرز" القديمة وصندوق الموسيقى (جاك بوكس) ظلَّ محتفظاً بهما كأنتيكا، كما خَمَّنت. فكل ما تجنيه تلك الآلتان لا يساوي ثمن كأس من الويسكي! لكن في قاموس آرتين الاقتصادي:
- "ليرة فوق ليرة بيشتروا كعكة كنافة"، أجابني حين سألته متعجبًا عن سبب احتفاظه بهما. ثم تابع: "في النهاية لن يحترمك الناس إلا بقدر ما تجني وتملك. انظر إلى مصير هؤلاء الفنانين؛ وبالأخص عيسى سعيد ورفاقه الرسامين. انظر إليهم وتأمل جيدًا؛ ثم انتبه إلى مستقبلك واحفظ قرشك الأبيض". سخرتُ من كلامه حينها، ففي تلك الفترة كل اهتماماتي كانت محصورة بالفكر والسياسة. ولاحقًا، بعدما تعرفت إلى "الطاوليين"، أضفت إليهما الشعر والأدب؛ والمجون. لذا كانت السرقة الأولى في حياتي: مسودّة كتابٍ غير منشور.
اقــرأ أيضاً
لم أكن أعلم بأن الذي سرقته من مكتب والدي، بالغ الأهمية وستثور ثائرته إن عرف. فلو شككت بذلك مجرد شك، لما احتفظت بـ "سيرة مسلم" في حقيبتي ولا لدقيقة واحدة. أو، على الأقل، لَمَا تجولت بها طوال الليل سكرانًا.
******
حين خرجنا من الحانة، تركني عصمت مع زينب كي توصلني إلى المنزل، فناولتني المفاتيح كي أتولى القيادة ثم استدارت واستقلت سيارتها من الباب الآخر، وكالعادة، ابتسمتْ لما رأتني أضع حزام الأمان. فممارسة عادة "إفرنجية" كهذه، قد تُعرِّضك للسخرية في بيروت؛ ومن الممكن أن ينعتك بعضهم بالمخنث أو المتأنق. لكنها لم تعلِّق على "تأنُّقي"؛ اكتفت بالابتسام وبدأت بالتقليب في أشرطة التسجيل لاختيار أغنية تتناسب وكمية الكحول التي احتسيناها.
******
لطالما اختليت بزينب وصوت أم كلثوم في سيارتها، إنما، كان ذلك أيام الطفولة والمراهقة. وليس بعد سهرةٍ طويلةٍ في حانةٍ تشبه حانات أبو نواس. لذا، وأنا أقود سيارتها في ليل بيروت، حيث نسيم الفجر يشرّع نوافذ "ألف ليلة وليلة" ويدخلك في عبق حكايا شهرزاد، شعرت أني بجانب امرأة مثيرة؛ ونسيت أنها عرابتي وصديقة والدتي الأقرب.
لطالما ضمتني زينب إلى صدرها وأشعرتني بحنان يفوق الذي وهبتني إياه أمي. إنما، في تلك اللحظة، انتبهت إلى أن نهديها مصدر للإثارة وليس فقط للحنان! فقلت إن عصمت محظوظ بهذه المرأة الجميلة. ثم تداركت وقلت: لا بل هو غبي لأنه، بالرغم من التصاقه الدائم بها، لا يبدوان كعاشقين فعليين. لم أكن أهتم لذلك في السابق، ولكن خلال زيارتي الأخيرة لبيروت صرت أتحين كل فرصة و"أُلَفِّق" أسئلة غبية كي أتقصى طبيعة علاقتهما:
- "منذ متى تعرفون جماعة الطاولة؟". لم تجب؛ كانت منهمكة بالبحث عن أحد كاسيتات أم كلثوم المنتشرة في كل أنحاء سيارتها! فتابعتُ السؤال: "لقد وعدني عصمت بتشكيلة من المدمنين لأجري عليهم أبحاثي الخاصة بأطروحة الماجيستير. هل كان يقصد شلة الطاولة؟! أو؛ هل أنتما مشمولان بالتشكيلة التي ستخضع لدراستي؟!".
لم تجب. شغَّلت المسجلة على أغنية "هذه ليلتي" ثم أرجعتْ مقعد السيارة واستلقت مغمضة العينين وهي تتمتم بصوتٍ خافت:
- "خذني إلى الكورنيش البحري لنشرب آخر قنينة بيرة".
* مقطع من رواية تصدر قريبًا
تلك الصورة، إضافةً إلى كونها فخر آرتين ومفتاح ذكرياته لأيام العز، كانت بمثابة إعلان عن أنك داخل إلى سبعينيات القرن الماضي، فالصور التي تملأ الجدران والإضاءة والديكور والكراسي والطاولات والبار، كانت تضفي على المكان سحر حقبة جميلة لعلها أفضل حقبات التاريخ الإنساني على الإطلاق:
- "إنها السنوات التي وصل فيها الإنسان إلى الذروة... إلى فتح آفاق الأحلام التي كانت تتعاظم وتتحقق كالسحر".
يقول آرتين ذلك، فيما الحنين يرقرق عينيه كانعكاس الماء في ظهيرة يوم مشمس، ثم يستفيض وكأن تلك الحقبة كانت إحدى إنجازاته الخاصة: "في نهاية السبعينيات انتهت الأحلام، انتهى عصر استخدام الإنسان للتكنولوجيا وابتدأ المسار العكسي؛ صار عقل الإنسان يعمل ضد الإنسان. فبعدما كان التطور العلمي وسيلة للرفاه والترقي، أصبح اليوم طريقًا للعودة الى بدائية الغرائز. وبرأيي، أنا آرتين الخمار، يجب على البشرية أن تضع حدًا للتطور العلمي وتلتفت قليلًا إلى هذا المسخ الذي صاره الإنسان".
أعجبني وصفه لتلك الحقبة، وزادت قناعتي بأن آرتين أكثر من خمَّار وبأنه محق عندما يعتبر نفسه واحدًا من أدباء الطاولة. واكتشفت أن الحانة ومحتوياتها، هي جزء لا يتجزأ من شخصيته. حتى ماكينة "الفليبرز" القديمة وصندوق الموسيقى (جاك بوكس) ظلَّ محتفظاً بهما كأنتيكا، كما خَمَّنت. فكل ما تجنيه تلك الآلتان لا يساوي ثمن كأس من الويسكي! لكن في قاموس آرتين الاقتصادي:
- "ليرة فوق ليرة بيشتروا كعكة كنافة"، أجابني حين سألته متعجبًا عن سبب احتفاظه بهما. ثم تابع: "في النهاية لن يحترمك الناس إلا بقدر ما تجني وتملك. انظر إلى مصير هؤلاء الفنانين؛ وبالأخص عيسى سعيد ورفاقه الرسامين. انظر إليهم وتأمل جيدًا؛ ثم انتبه إلى مستقبلك واحفظ قرشك الأبيض". سخرتُ من كلامه حينها، ففي تلك الفترة كل اهتماماتي كانت محصورة بالفكر والسياسة. ولاحقًا، بعدما تعرفت إلى "الطاوليين"، أضفت إليهما الشعر والأدب؛ والمجون. لذا كانت السرقة الأولى في حياتي: مسودّة كتابٍ غير منشور.
لم أكن أعلم بأن الذي سرقته من مكتب والدي، بالغ الأهمية وستثور ثائرته إن عرف. فلو شككت بذلك مجرد شك، لما احتفظت بـ "سيرة مسلم" في حقيبتي ولا لدقيقة واحدة. أو، على الأقل، لَمَا تجولت بها طوال الليل سكرانًا.
******
حين خرجنا من الحانة، تركني عصمت مع زينب كي توصلني إلى المنزل، فناولتني المفاتيح كي أتولى القيادة ثم استدارت واستقلت سيارتها من الباب الآخر، وكالعادة، ابتسمتْ لما رأتني أضع حزام الأمان. فممارسة عادة "إفرنجية" كهذه، قد تُعرِّضك للسخرية في بيروت؛ ومن الممكن أن ينعتك بعضهم بالمخنث أو المتأنق. لكنها لم تعلِّق على "تأنُّقي"؛ اكتفت بالابتسام وبدأت بالتقليب في أشرطة التسجيل لاختيار أغنية تتناسب وكمية الكحول التي احتسيناها.
******
لطالما اختليت بزينب وصوت أم كلثوم في سيارتها، إنما، كان ذلك أيام الطفولة والمراهقة. وليس بعد سهرةٍ طويلةٍ في حانةٍ تشبه حانات أبو نواس. لذا، وأنا أقود سيارتها في ليل بيروت، حيث نسيم الفجر يشرّع نوافذ "ألف ليلة وليلة" ويدخلك في عبق حكايا شهرزاد، شعرت أني بجانب امرأة مثيرة؛ ونسيت أنها عرابتي وصديقة والدتي الأقرب.
لطالما ضمتني زينب إلى صدرها وأشعرتني بحنان يفوق الذي وهبتني إياه أمي. إنما، في تلك اللحظة، انتبهت إلى أن نهديها مصدر للإثارة وليس فقط للحنان! فقلت إن عصمت محظوظ بهذه المرأة الجميلة. ثم تداركت وقلت: لا بل هو غبي لأنه، بالرغم من التصاقه الدائم بها، لا يبدوان كعاشقين فعليين. لم أكن أهتم لذلك في السابق، ولكن خلال زيارتي الأخيرة لبيروت صرت أتحين كل فرصة و"أُلَفِّق" أسئلة غبية كي أتقصى طبيعة علاقتهما:
- "منذ متى تعرفون جماعة الطاولة؟". لم تجب؛ كانت منهمكة بالبحث عن أحد كاسيتات أم كلثوم المنتشرة في كل أنحاء سيارتها! فتابعتُ السؤال: "لقد وعدني عصمت بتشكيلة من المدمنين لأجري عليهم أبحاثي الخاصة بأطروحة الماجيستير. هل كان يقصد شلة الطاولة؟! أو؛ هل أنتما مشمولان بالتشكيلة التي ستخضع لدراستي؟!".
لم تجب. شغَّلت المسجلة على أغنية "هذه ليلتي" ثم أرجعتْ مقعد السيارة واستلقت مغمضة العينين وهي تتمتم بصوتٍ خافت:
- "خذني إلى الكورنيش البحري لنشرب آخر قنينة بيرة".
* مقطع من رواية تصدر قريبًا