19 نوفمبر 2024
أوقاف أرثوذكسية في مهب التهويد
في زحمة الأخبار العاجلة، والتطورات المتسارعة، التي تعصف بهذه المنطقة المضطربة من العالم، يكاد الخبر الفلسطيني، على أهميته الموضوعية وخطورته البالغة، لا يجد له متسعاً بين جملة الوقائع الساخنة، وخضم الانفجارات المدوية، ولا يحوز على الحد الأدنى من اهتمامات الرأي العام العربي، الموزّع بين شتى القضايا والنوائب والحروب والانقسامات المتنقلة بين المشارق والمغارب، فما بالك إذا كان الخبر الفلسطيني الطازج يتعلق بمسألة تفتقر إلى الإثارة، وتتصل بجزئيةٍ صغيرةٍ من متفرعات القضية التي لم تعد القضية العربية المركزية منذ نحو سبع سنوات على أقل تقدير؟
ما هي بصدده هذه المطالعة مسألة تبدو صغيرة للوهلة الأولى، وهامشية إلى حد ما، تتعلق بظاهرة ليست جديدة تماماً، إلا أنها تزداد اتساعاً، وتتعمق أكثر فأكثر في الآونة الخيرة، قوامها تسارع وتيرة بيع أملاك وممتلكات وقفية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، يقوم بها المؤتمن على هذه الأملاك الواقعة في القدس وعدد من مدن الداخل الفلسطيني، مثل يافا والرملة وطبرية وقيسارية، ونعني به بطريرك الطائفة الأرثوذكسية ثيوفيلوس الثالث، المتهم بتسريب هذه الأملاك لشركات استيطانية، بعلم المجمع الكنسي اليوناني التابع له وموافقة هذا المجمع.
والحق أن هذه البيوعات المشبوهة لم تمر مرور الكرام على أبناء هذه الطائفة العربية الفلسطينية وقادتها، وهي التي لم تفوت فرصة سانحة إلا وأعلت صوتها، وتظاهرت ضد ما تعتبره تفريطاً وخيانة وطنية، تقترفها "المافيا" المتحكمة بالبطريركية الأرثوذكسية في فلسطين والأردن منذ مئات السنين، حيث درجت أثينا، وفق نظام لاهوتي خاص، على تعيين بطاركة يونانيين لرعاية أحوال موطنين عرب، فيما تصادق على هذا التعيين الحكومتان الأردنية والفلسطينية بصورة أوتوماتيكية، وفق التقاليد المرعية في السنوات القليلة الماضية.
كان أحدث مظهر احتجاجي على سلوك البطريرك المثير للشبهات قد تجلى في بلدة الرينة
الواقعة في أعالي الجليل، في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حين توجه راعي الكنيسة الأرثوذكسية إلى إقامة صلاة الأحد في كنيسة البلدة الجليلية، حيث خرج جمع من أهالي الرينة بمظاهرة صاخبة (طوّقتها الشرطة الإسرائيلية) ضد هذه الزيارة التي سبقها بيان أصدره مجلس الطائفة، واللجنة التنفيذية للمؤتمر الأرثوذكسي في مدينة الناصرة، يدعو أبناء البلدة إلى "رفض استقبال هذا الخائن، وإلغاء الزيارة التي يقوم بها"، استجابة لرأي عام كاسح داخل الطائفة المتمسّكة بهويتها الوطنية وجذورها التاريخية ومقدساتها الدينية.
لم تكن المظاهرة في الرينة إلا امتدادا لسلسلة طويلة من المظاهرات ووقفات الاحتجاج والحراكات المستمرة، ضد ما اعتبرته الأغلبية الأرثوذكسية تفريطاً بالأرض موضع الصراع، وتهويداً للبلاد، وتغييراً للهوية الحضارية، فقد سبقتها مظاهرة أوسع نطاقاً جرت في مدينة القدس، وأخرى في بيت لحم، احتجاجاً على بيع عقارات ثمينة في باب الخليل، وغيرها من العقارات المماثلة في البلدة القديمة، وكان ذلك في التاسع من أغسطس/ آب الماضي، علماً أن أول الاحتجاجات والاعتصامات كانت قد بدأت منذ العام 2005 على خلفية شيوع أول الأنباء عن تواطؤ البطريرك نفسه في هذه الجريمة السياسية الأخلاقية الموصوفة.
في غضون السنوات الطويلة السابقة، تشكل رأي عام كان يشتدّ نبرة، ويتسع نطاقاً ومشروعيةً مع مرور الوقت، ضد هذه الظاهرة الصادمة لكل طوائف الشعب الفلسطيني، الذي يدرك من الأزل أن جوهر الصراع مع الاحتلال قائم على ركيزتي؛ سلب الأرض وجلب مزيد من المستوطنين، الأمر الذي أوجد أول كيان مؤسسي مناهض لتسريب أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية، المالكة لما مساحته أكثر من خمس البلدة القديمة في القدس، وهو "المجلس المركزي الأرثوذكسي الفلسطيني"، فضلاً عن "الشباب العربي الأرثوذكسي" لاحقاً و"المجلس المركزي الأرثوذكسي داخل أراضي الـ48". كما ظهر، أخيرا، مجلس موحد مماثل يضم الأرثوذكس في كل من الأردن وفلسطين.
ولعل أهم موقف صادر عن هذه المؤسسات الأرثوذكسية، كان البيان الصادر عنها في العشرين من شهر أغسطس/ آب الماضي، حين تعهد ممثلو هذه الهيئات الشعبية بمواصلة تحركهم المنظم لإلغاء صفقات بيع أملاك الكنيسة في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، لشركات استيطانية معروفة ومدعومة من سلطات الاحتلال، كما أعلنوا عن التزامهم مقاطعة البطريرك ومجمعه الكنسي الذي يغطي على هذه البيوعات، ولم يتردّدوا في اتهام القائمين على الكنيسة القديمة قدم الديانة المسيحية في فلسطين، بتهمة الخيانة الثقيلة جداً على مسامع الفلسطينيين، ووجدانهم الوطني، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحاضر مدينة القدس.
غير أن الدافع الأول لهذه المطالعة المعنية أساساً بتسليط الضوء ما أمكن على هذه القضية،
التي لم تحظ بالاهتمام والمتابعة الكافيتين، لا من جانب شعب فلسطين الغارق في همومه السياسة الملحة، ولا حتى من جانب الرأي العام العربي المستغرق بدوره في مشكلاته الداخلية المتفاقمة، نقول إن الدافع كان قيام وفد من دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، أخيرا، بزيارة غير متوقعة، حتى لا نقول مستهجنة تماماً، إلى مقر البطريركية الأرثوذكسية، يرأسه مدير الأوقاف الشيخ عزام الخطيب، الأمر الذي أثار حفيظة الجميع من مسلمين ومسيحيين، ممن رأوا في توقيت الزيارة شبهة دعم وتأييد للبطريرك المتهم بهذه البيوع منذ أجل طويل.
وزاد من الطين المبلول بلة أن الزيارة التي جاءت في غير أوانها، على الأقل، كانت مسبوقة ببيان صادر عن المؤتمر الوطني الفلسطيني، قبل أقل من شهرين، يدعم القضية العربية الأرثوذكسية، ويدعو إلى عزل البطريرك وعدم استقباله، الأمر الذي فاقم من استياء الشارع الفلسطيني بكل طوائفه، وجعله يلوم مدير دائرة الوقف الإسلامي الذي قال بيان البطريركية عنه، في أعقاب الزيارة، أن الشيخ جاء داعماً ومسانداً للبطريركية، في مواجهة التحديات التي تعاني منها في الأراضي الفلسطينية، ونسب إليه القول إن الكنائس حرة في الحفاظ والتصرف بممتلكاتها.
ومع أن مدير دائرة أوقاف القدس نفى ذلك، وأكد أن الهدف من زيارته تقصي الحقائق، والكشف عن كل أنواع التسريب للممتلكات، إلا أنه لم يتوان عن محض البطريرك المثير للجدل داخل طائفته ما كان يحتاجه من ثقةٍ لا يستحقها، عندما قال الشيخ عزام؛ إنه بحاجة إلى وثائق تثبت تورّط البطريرك، ضارباً عرض الحائط بكل ما تداوله قادة المجتمع الأرثوذكسي من وثائق وبيانات تقطع الشك باليقين في هذه المسألة، التي لم تعد مجرد أخبار مفبركة تطاول الرجل الذي بات ضالعاً في مؤامرةٍ كبيرة، ومستهيناً بعواطف أبناء الطائفة التي يرعاها ومصالحهم، من دون رأي مسبق لها إزاء فرمانات الكنيسة اليونانية المتعالية على أبناء أقدم كنيسة أرثوذكسية على الإطلاق.
ما هي بصدده هذه المطالعة مسألة تبدو صغيرة للوهلة الأولى، وهامشية إلى حد ما، تتعلق بظاهرة ليست جديدة تماماً، إلا أنها تزداد اتساعاً، وتتعمق أكثر فأكثر في الآونة الخيرة، قوامها تسارع وتيرة بيع أملاك وممتلكات وقفية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، يقوم بها المؤتمن على هذه الأملاك الواقعة في القدس وعدد من مدن الداخل الفلسطيني، مثل يافا والرملة وطبرية وقيسارية، ونعني به بطريرك الطائفة الأرثوذكسية ثيوفيلوس الثالث، المتهم بتسريب هذه الأملاك لشركات استيطانية، بعلم المجمع الكنسي اليوناني التابع له وموافقة هذا المجمع.
والحق أن هذه البيوعات المشبوهة لم تمر مرور الكرام على أبناء هذه الطائفة العربية الفلسطينية وقادتها، وهي التي لم تفوت فرصة سانحة إلا وأعلت صوتها، وتظاهرت ضد ما تعتبره تفريطاً وخيانة وطنية، تقترفها "المافيا" المتحكمة بالبطريركية الأرثوذكسية في فلسطين والأردن منذ مئات السنين، حيث درجت أثينا، وفق نظام لاهوتي خاص، على تعيين بطاركة يونانيين لرعاية أحوال موطنين عرب، فيما تصادق على هذا التعيين الحكومتان الأردنية والفلسطينية بصورة أوتوماتيكية، وفق التقاليد المرعية في السنوات القليلة الماضية.
كان أحدث مظهر احتجاجي على سلوك البطريرك المثير للشبهات قد تجلى في بلدة الرينة
لم تكن المظاهرة في الرينة إلا امتدادا لسلسلة طويلة من المظاهرات ووقفات الاحتجاج والحراكات المستمرة، ضد ما اعتبرته الأغلبية الأرثوذكسية تفريطاً بالأرض موضع الصراع، وتهويداً للبلاد، وتغييراً للهوية الحضارية، فقد سبقتها مظاهرة أوسع نطاقاً جرت في مدينة القدس، وأخرى في بيت لحم، احتجاجاً على بيع عقارات ثمينة في باب الخليل، وغيرها من العقارات المماثلة في البلدة القديمة، وكان ذلك في التاسع من أغسطس/ آب الماضي، علماً أن أول الاحتجاجات والاعتصامات كانت قد بدأت منذ العام 2005 على خلفية شيوع أول الأنباء عن تواطؤ البطريرك نفسه في هذه الجريمة السياسية الأخلاقية الموصوفة.
في غضون السنوات الطويلة السابقة، تشكل رأي عام كان يشتدّ نبرة، ويتسع نطاقاً ومشروعيةً مع مرور الوقت، ضد هذه الظاهرة الصادمة لكل طوائف الشعب الفلسطيني، الذي يدرك من الأزل أن جوهر الصراع مع الاحتلال قائم على ركيزتي؛ سلب الأرض وجلب مزيد من المستوطنين، الأمر الذي أوجد أول كيان مؤسسي مناهض لتسريب أوقاف الكنيسة الأرثوذكسية، المالكة لما مساحته أكثر من خمس البلدة القديمة في القدس، وهو "المجلس المركزي الأرثوذكسي الفلسطيني"، فضلاً عن "الشباب العربي الأرثوذكسي" لاحقاً و"المجلس المركزي الأرثوذكسي داخل أراضي الـ48". كما ظهر، أخيرا، مجلس موحد مماثل يضم الأرثوذكس في كل من الأردن وفلسطين.
ولعل أهم موقف صادر عن هذه المؤسسات الأرثوذكسية، كان البيان الصادر عنها في العشرين من شهر أغسطس/ آب الماضي، حين تعهد ممثلو هذه الهيئات الشعبية بمواصلة تحركهم المنظم لإلغاء صفقات بيع أملاك الكنيسة في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، لشركات استيطانية معروفة ومدعومة من سلطات الاحتلال، كما أعلنوا عن التزامهم مقاطعة البطريرك ومجمعه الكنسي الذي يغطي على هذه البيوعات، ولم يتردّدوا في اتهام القائمين على الكنيسة القديمة قدم الديانة المسيحية في فلسطين، بتهمة الخيانة الثقيلة جداً على مسامع الفلسطينيين، ووجدانهم الوطني، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بحاضر مدينة القدس.
غير أن الدافع الأول لهذه المطالعة المعنية أساساً بتسليط الضوء ما أمكن على هذه القضية،
وزاد من الطين المبلول بلة أن الزيارة التي جاءت في غير أوانها، على الأقل، كانت مسبوقة ببيان صادر عن المؤتمر الوطني الفلسطيني، قبل أقل من شهرين، يدعم القضية العربية الأرثوذكسية، ويدعو إلى عزل البطريرك وعدم استقباله، الأمر الذي فاقم من استياء الشارع الفلسطيني بكل طوائفه، وجعله يلوم مدير دائرة الوقف الإسلامي الذي قال بيان البطريركية عنه، في أعقاب الزيارة، أن الشيخ جاء داعماً ومسانداً للبطريركية، في مواجهة التحديات التي تعاني منها في الأراضي الفلسطينية، ونسب إليه القول إن الكنائس حرة في الحفاظ والتصرف بممتلكاتها.
ومع أن مدير دائرة أوقاف القدس نفى ذلك، وأكد أن الهدف من زيارته تقصي الحقائق، والكشف عن كل أنواع التسريب للممتلكات، إلا أنه لم يتوان عن محض البطريرك المثير للجدل داخل طائفته ما كان يحتاجه من ثقةٍ لا يستحقها، عندما قال الشيخ عزام؛ إنه بحاجة إلى وثائق تثبت تورّط البطريرك، ضارباً عرض الحائط بكل ما تداوله قادة المجتمع الأرثوذكسي من وثائق وبيانات تقطع الشك باليقين في هذه المسألة، التي لم تعد مجرد أخبار مفبركة تطاول الرجل الذي بات ضالعاً في مؤامرةٍ كبيرة، ومستهيناً بعواطف أبناء الطائفة التي يرعاها ومصالحهم، من دون رأي مسبق لها إزاء فرمانات الكنيسة اليونانية المتعالية على أبناء أقدم كنيسة أرثوذكسية على الإطلاق.
دلالات
مقالات أخرى
12 نوفمبر 2024
05 نوفمبر 2024
29 أكتوبر 2024