أوروبا: يمين شعبوي يرسم خريطة حزبية بديلة بخطاب الكراهية

07 سبتمبر 2016
من تظاهرة لليمين الألماني المتطرف في برلين (إيمانويل كونتيني/Getty)
+ الخط -
تظهر تدريجياً في أوروبا، بشقيها الغربي والشرقي، ملامح خريطة حزبية سياسية جديدة. تقدم اليمين الشعبوي انتخابياً، ألمانيا نموذجاً وليس حصراً قبل أيام، غير مفصول عن مزاج عام يتجه نحو حصر التنافس بين شعبويين، يمينيين ويساريين مع غلبة ظاهرة للطرف الأول. موجة عامة من شأنها إعادة هيكلة الخريطة الحزبية الأوروبية بشكل يتراجع فيها دور وتواجد الأحزاب "التقليدية" من وسط ويمين ويسار "كلاسيكيين" لمصلحة شعبويين يطمحون للحكم في بعض البلدان، ولا يرغبون سوى بمراكمة الشعبية والأصوات في أماكن أخرى. كبش الفداء في خطاب الكراهية عند هؤلاء، هم اللاجئون والمهاجرون و"الغرباء" عموماً، خصوصاً المسلمين. هكذا يشاهد العالم مساراً تتسارع وتيرته، عنوانه العريض تراجع مكتسبات الديمقراطية الاشتراكية والاجتماعية والقيم الإنسانية التي راكمتها القارة العجوز طيلة عقود لمصلحة شعارات شعبوية تنطلق من غضب حقيقي ضد سلطة رأس المال والعولمة وسياسات الاتحاد الأوروبي، لكن من زاوية انعزالية قومية شوفينية، لتصوّب العداء باتجاه الطرف الأضعف في المجتمعات الأوروبية اليوم: "الغرباء".


يوم الأحد الماضي، 4 سبتمبر/أيلول، رسخ حزب "البديل لأجل ألمانيا" حضوره في عقر دار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ففي شمال شرق ألمانيا، مكلينبورغ - فوربوميرن، انتزع الحزب صدارة المشهد بـ20.8 بالمائة من أصوات الناخبين، وكانت الاستطلاعات قد منحته 19 بالمائة، ليشكل صدمة لحزب المستشارة "الديمقراطي المسيحي"، ويسار الوسط، الاجتماعي الديمقراطي، المتحالف مع يمين الوسط منذ 2013. وقد سبق للخطيبة المفوهة، خريجة علوم الكيمياء، فراوكا بيتري (41 سنة)، أن وصلت إلى زعامة حزب البديل اليميني المتطرف في ألمانيا، إثر تحدي رئيس الحزب السابق، "الأقل تطرفاً"، بيرند لوك، ومنازلة سياسية مع آخرين في حزبها، في يوليو/تموز 2015، بحصولها على 60 بالمائة من أصوات أعضاء الحزب، آخذة الحزب نحو اليمين أكثر. في جعبة بيتري الخطابية تركيز على قضايا: اللاجئون وانتقاد الإسلام وتحسين العلاقة مع روسيا وانتقاد الاتحاد الأوروبي. الخوف من تمدد هذا الحزب يدفع بيتري بين حين وآخر إلى الادعاء بأن حزبها "حزب معتدل". لكن، وفقاً للباحث في جامعة برلين الحرة، هاغو فونكا، في تصريحاته الأخيرة لصحيفة "انفارمسيون الدنماركية"، بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول، فإن "حزب البديل كان على وشك الدخول في البرلمان الاتحادي عام 2013 حين حصل على 4.7 بالمائة ( مطلوب الحصول على 5 بالمائة من أصوات الناخبين لعضوية البرلمان) ولو حصلت انتخابات غداً، لحصد الحزب 10 بالمائة ودخل البرلمان الاتحادي بالفعل".



تطبيع التطرف القومي بوجه نسائي
الخطابات الشعبوية للحزب، وشعاراته العدوانية بشأن سياسة اللجوء والمهاجرين والإسلام وتشجيع خطاب الكراهية، لا تجعله في صفوف الأحزاب اليمينية الكلاسيكية المنتشرة في أوروبا. ولكي يصبح أكثر شعبية في ألمانيا، يسعى "البديل لأجل ألمانيا" لجعل الخطاب المتطرف من يوميات الألمان. ففي الثلاثين من يناير/كانون الثاني 2016، لم تتردد فراوكا بيتري في الدعوة الصريحة عبر صحيفة "ماينهايمر" لإطلاق النار "لمنع اللاجئين من عبور حدودنا".


صحيح أن تلك الدعوة أثارت بعض الصدمة، لكن ذلك لم يكلف الحزب ثمناً في صناديق الاقتراع أو شعبيته في الاستطلاعات المتتالية. وليس سراً أن خلفية بيتري، المتحدرة من ألمانيا الشرقية سابقاً، جعلتها تفهم معادلة إحباط الألمان الشرقيين، لحصد المزيد من الشعبية في الاستطلاعات والانتخابات. قدم أحد أقطاب اليسار الألمان شهادته عن هذه المرأة التي تقود حزبها نحو انتصار غير مسبوق؛ كتب أوغشتاين ياكوب على مدونته في "ديرشبيغل أونلاين" العام الماضي: "من هي هذه المرأة؟ لقد جلست معها في برامج حوارية، تبدو ناعمة، جميلة، ولطيفة وابتسامتها مبهجة وتجلب التعاطف. لكن، فجأة يتحول وجهها إلى لوح من الثلج ومن فمها الذي كان يبتسم تتدفق الكراهية. إنه لشيء مرعب".

ليس سراً في ألمانيا، وبين خبراء الحركات المتطرفة في أوروبا الشمالية، أن شخصية فراوكا بيتري، وتحديها العلني والقوي لخطاب وسياسات ميركل، أكسبها شعبية وتعاطفاً والتفافاً يمينياً أشد تطرفاً. فهي مثل غيرها في الحزب على علاقة وطيدة بحركة "بيغيدا" التي ترفع شعار "محاربة أسلمة أوروبا". ثمة إشكالية عميقة جداً في مجتمع مقيد بقوانين رادعة في التعبير عن الانتماء للفكر النازي، لكن التجربة العملية لاتجاهات التشدد القومي في ألمانيا ظلت تناور عند حافة الهاوية لترسيخ أقدامها في الخريطة السياسية. وما يخشاه المتخصص في العنف اليمين المتطرف، هاغو فونكا، أن عنفاً إضافياً ستشهده ألمانيا بعد فوز البديل في مكلينبورغ -فوربوميرن. ذلك أن الحزب الآخر، صاحب الخلفية "النازية الجديدة"، الحزب "الوطني الديمقراطي" (NPD ) مهدد بالحظر التام، وعلى الرغم من خسارته في الانتخابات، إلا أنه من الواضح التقارب بين قاعدته الشعبية وقواعد حزب البديل وحركة بيغيدا. تقارب يشير بوضوح إلى قدرة التطرف على أخذ أبعاد أخطر من مجرد نقاش حول اللاجئين. فالعنف الجسدي يمارسه الحزب "الوطني الديمقراطي" منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وكانت المجموعة الإرهابية "اشتراكيون وطنيون" تحت الأرض( NSU Nationalsozialistischer Untergrund )، مسؤولة عن مقتل العديد من المهاجرين. يخشى المختصون بشأن تلك الجماعات أن يكون "الجو السياسي والدوافع تضاعفت منذ 2014 حتى وصلت أوجها في 2015" وفقاً لدراسة فونكا في هذا المجال. ويعطي هذا الباحث مثالاً على ما يجري إذ "في غوديندورف، إلى الجنوب من ميكلينبورغ، (شمال شرق)، والتي يقطنها 400 مواطن، شهدت وصول بين 6 إلى 7 لاجئين، لاحقتهم اعتداءات بالحرق من دون توجيه اتهام لأي شخص. اليوم، لم يعد فيها لاجئ واحد، وهذا يعطي صورة عن فداحة ما تخسره القيم".

تعبئة على خلفية الأزمات والخوف
هؤلاء الألمان الذين يقلقهم هذا التقدم اليميني، حذروا، منذ عام 2014، من أن "البديل" يتحول مع الوقت "إلى نقطة جمع وجذب للحركات المتطرفة نحو اليمين أكثر بإضفاء صبغة حزبية شعبية". وما يراه اليساري أوغشتاين جاكوب، يراه غيره أيضاً، "فقد أخطأت الأحزاب السياسية القائمة بعزل حزب البديل ومحاربته وعدم محاورته علناً. وذهاب دير شبيغل في أواخر يناير الماضي إلى وضع صورة بيتري على غلافها بعنوان: "واعظة الكراهية"، أفادها وأفاد حزبها كثيراً وفقاً لما قاله الباحث في شؤون الجماعات اليمينية المتطرفة سيباستيان فريدريش.


ما أنتجه حزب البديل من تغييرات على الساحة السياسية في ألمانيا، إلى جانب مخاوف الطبقة الوسطى في المجتمع من تآكل وتراجع نفوذها، هو زرع الخوف، وبالتالي "طرح نفسه بديلاً منذ البداية، كما لو أنه يمثل فترة ما بعد الديمقراطية، لملامسة مخاوف الطبقة المتوسطة برؤية تستند إلى قواعد شعبية، تذكر بعمل اليسار، في ظروف اعتمدت بناء خطاب ثنائية الشعب ــ السياسيين، بطابع شعبوي وتبديل للغة المستخدمة" (بحسب ما يكتبه فرديريش في كتابه "نشأة حزب البديل"). في الواقع، ليست فقط قضية اللاجئين والمهاجرين هي الأساس في تقدم "البديل"، بل يمكن البحث عن جذور أخرى، مثل انزياح السلطة أكثر نحو المركز، في إشارة إلى أن مسؤولي الاتحاد الأوروبي في بروكسل باتوا يهمينون أكثر على قرارات تتعلق مباشرة بالمصالح الوطنية. بذلك، يمكن قراءة الجدل المتنامي في أوروبا حول أكثر من مليون مهاجر ولاجئ وصلوا إلى أوروبا، إذ حاول "ساسة المركز" الأوروبي فرض طريقة لتوزيع هؤلاء على دول الاتحاد.


وعلى الصعيد الوطني، فإن قوة "البديل" تكمن أيضاً، إلى جانب إيلاء المشكلة الاجتماعية تركيزاً كبيراً، في عدم رضا أقلية من السياسيين، وبعض أصحاب رأس المال، في برلين، على سياسات ميركل الأوروبية، وبعض سياساتها الاقتصادية، التي يرون أنها لا تحمي الاقتصاد الوطني. بل إن بعض تلك المجموعات الرأسمالية لا تبدو مهتمة بقضية التصدير بقدر اهتمامها بالاقتصاد الداخلي، مع مطالبة بإعادة العمل بالمارك الألماني "ليصبح هناك منافسة قوية للشركات الأجنبية الآتية من الخارج" (بحسب فريدريش في كتابه). أضف إلى ذلك أن الطرح الاقتصادي، الذي يلامس مصالح الشركات المتوسطة، يقوم على ما يسميه فريدريش "ضرورة الانفصال عن المصالح المركبة مع رؤوس الأموال العابرة للحدود الوطنية"، بطرح معالجات جزئية مصلحية للطبقتين الوسطى والعاملة، واللعب على مشاعر الخوف من فقدان المصالح في مرحلة الانفتاح الكبير. ووفقاً لما جاء في مقال تحليلي طويل للصحافي هولغر شتيلتزنير، رئيس قسم الاقتصاد في صحيفة "فرانكفورتر"، فإنه يرى أن الغرب عموماً يعيش تجربة جديدة "من الركود وانخفاض الدخل الحقيقي وتغييرات في توزع الثروات، مع ارتفاع نسبة المتقاعدين وتزايد الهجرة، ما يدفع باتجاه معركة على سوقي العمل والإسكان. وتزيد العولمة في سوقي العمل الأوروبي والأميركي من الانتقال إلى آسيا، بينما التطور التقني بات يهدد المهن التقليدية". في رأي هذا الخبير الاقتصادي الألماني، شتيلتزنير، ثمة تفسيرات أخرى، غير مبسطة لتقدم خطابات الجماعات والأحزاب الشعبوية، سواء في أميركا أو أوروبا، ففي ظل هكذا تغيرات، تجد الأحزاب التقليدية والنخب السياسية، نفسها "تحت ضغط الخاسرين من العولمة. النخب الحاكمة، حتى المتحالفة في يسار ويمين الوسط، باتت محتقرة من الشعبويين، من دون تجاهل إنجازاتها.

تأثير الدومينو...
باتت ألمانيا حالياً مثالاً لكثير من الحركات والأحزاب التي ترى تجربة تصاعد اليمين الشعبوي كمدخل لاستغلال ما هو متاح من ظروف بشكل سريع ومذهل. الوضع قائم أيضاً في كل من النمسا وفرنسا وسويسرا والسويد والدنمارك وهولندا وبريطانيا. العامل المشترك في الخطاب الشعبوي لدى جماعات وأحزاب أوروبا الغربية والشرقية، هو استغلال الخوف إلى أبعد الحدود. الخوف والتخويف من المسلمين والإسلام، ومسائل الأمن الفردي والجماعي، والقلق وغياب الأمان من المستقبل، ونقد للعولمة، كلها عوامل تشترك فيها خطابات تلك الأحزاب. المسائل الاقتصادية ليست بمعزل عن تلك التحولات أيضاً. فالأحزاب التقليدية، التي ترى استغلال الجماعات الشعبوية لمشاعر المواطنين القلقين، يبدو أنها لم تستطع تقديم أجوبة صحيحة عن تحديات كثيرة تواجهها المجتمعات.

تضرر الديمقراطية وتنافس رؤى
ينشغل عدد من خبراء الحركات اليمينية في استخلاص ما تعنيه زيادة شعبية اليمين القومي الشعبوي في عدد من دول أوروبا، وخصوصاً ألمانيا أخيراً. يذهب المختص في هذه الحركات هاغو فونكا، لاعتبارها "خطراً على الديمقراطية الأووربية، وعدوى تصيب النمسا وغيرها، بعد ألمانيا، بحيث نصبح أمام نظام سياسي مروع، يعيد للأذهان البحث عن أكباش فداء كما في العصر النازي، وهم اليوم اللاجئون والمهاجرون".
في هذا السياق، تشرح مرشحة حزب البديل اليساري للانتخابات البرلمانية الدنماركي فيبيكا غينيفكي لـ"العربي الجديد" أن "أحزاب الحكم في يمين الوسط، وفي حالة ألمانيا تحديداً، ستذهب إلى المزيد من التقارب والاصطفاف، حتى مع الاجتماعيين الديمقراطيين. وربما أيضاً رفع منسوب الخطاب اليميني لدى تلك الأحزاب، ظناً منها أنها بذلك ستقطع الطريق على التطرف قبيل انتخابات العام المقبل". لكن ما يشغل بال غينيفكي، وغيرها ممن هم على يسار الاجتماعيين الديمقراطيين، التحولات الجارية في عموم الخارطة السياسية الأوروبية وتراجع الاجتماعيين الديمقراطيين. فما يمكن أن يجري في ألمانيا شهدته اليونان حيث أقصي "الاجتماعي الديمقراطي" في "باسوك" (Pasok)، بعد أن حكم مع المحافظين في حزب "الديمقراطية الجديدة". بينما "الفجر الذهبي"، بتوجه نازي، يثير أيضاً مخاوف من أن يتقدم كحزب احتجاجي. ولا يختلف الأمر في إيطاليا، حيث إن حزب الاحتجاج "مو فيمينتو 5 ستللا" (النجوم الخمس) نما بشكل كبير في الوقت الذي كان فيه اليسار واليمين يحكمان. وتلحظ غينيفكي حالة النمسا أيضاً، حيث من الممكن أن نرى رئيساً من اليمين المتطرف. في هولندا يمكن لتهديد غييرت فليدزر أن يدفع اليمين التقليدي ويسار الوسط إلى الحكم شراكة.
بعبارة أخرى، فإنّ الجو السياسي الديمقراطي في أوروبا يتغير، بحيث يهيمن النقد للسياسات باندفاع أحزاب احتجاجية بنسب ليس بالضرورة أن تصبح جزءاً من عملية اتخاذ القرار، أو في حالات أخرى مؤثرة على نوعية القرارات، وفي الحالتين ستقف أوروبا أمام أزمة ديمقراطية وفقاً لكثير من متابعي الشأن الأوروبي. وهؤلاء لديهم مخاوفهم الجدية من أن "الوسط"، يساراً ويمينا، يكاد يختفي من المشهد لمصلحة تكتلات أجنحة على النقيضين. أمر يدفع إلى الواجهة بأحزاب احتجاجية أكثر من السابق. وهي كما في حالات عدة، في السويد والدنمارك، لا تساهم في الواقع السياسي سوى باحتجاجات وكسب أصوات من دون أن تحكم.

دلالات