أوروبا والإسلام ؛ خزّان من الكراهية

09 مارس 2015
+ الخط -
رفائيل ليوجييه، من مواليد 1967، هو عالم اجتماع وفيلسوف. بروفيسور جامعي في معهد الدراسات السياسية بمدينة "إيكس أون بروفانس" الفرنسية، حيث يدير منذ عام 2006 مركز "المرصد الديني". انكب رفائيل منذ عشرين عامًا على دراسة إشكالية المعتقدات وبالأخص على الخوف من الأسلمة، الشعور الذي استحوذ على المخيّل وعلى الخطابات الغربية. غير أن أعماله تتعدّى حقل الإسلام وتتجاوزه لتغطية معتقدات في ديانات أخرى. وله في هذا المجال عشرات المؤلفات أهمها: "أن تكون بوذيًا اليوم في فرنسا"، وذلك بالتعاون مع برينو إيتيان، وكتاب "علمانية "شرعية": فرنسا وديانات الدولة"، ومؤخرًا كتاب "أسطورة الأسلمة، مقاربة لهوس جماعي"، الذي نقرأ عنه هنا.
يأتي الاهتمام الذي تحظى به كتابات ليوجييه من كونه يسير عكس التيار السائد في فرنسا، الذي يحكم على الإسلام قبل أن يتعرف إليه، ويساير ما هو متعاهد ومتفق عليه من تعليب الإسلام في حزمة من الصيغ والأفكار المسبّقة والكليشيهات. وهو التيار الذي يحرص على الإمساك بأركيولوجية المفاهيم وكيفيات توظيفها في مجال الخطاب اليومي أو الإعلامي. ومن بين المفاهيم المتداولة الاستعمال في المعجم "الإسلاموفوبي" اليوم، مفهوم الأسلمة، الذي يعالجه رفائيل في كتابه.
وقد اندسّ هذا المفهوم في النقاش العامّ منذ منتصف عام 2000، واتكأ أولئك الذين سرّبوا الكلمة، على فرضية تزايد عدد المسلمين، وذلك من خلال الأطروحة القائلة بأن "المسلمين يتكاثرون ديمغرافيًا بشكل خطير، ويشكّلون بالتالي تهديدًا عدديًا وثقافيًا على أوروبا". إنها الأطروحة نفسها التي تقولها إسرائيل في ما يخصّ الفلسطينيين.
وتناسقت، من حول ما سماه ليوجييه "الهوس الجديد"، حركات أوروبية قديمة وجديدة مثل؛ حركة بيغيدا، وعصبة الدفاع عن كرة القدم البريطانية، العصبة الألمانية، العصبة الفرنسية، كتلة الهوية، العصبة الأوروبية أو "مرصد الأسلمة"، وهي كلّها جمعيات ظهرت في بداية القرن الواحد والعشرين، وجُنّدت لمحاربة الإسلام.
فهذه المنظمات الناشطة مشبعة أيديولوجيًا بأطروحات تآمرية، من نوع : "الإسلام يتآمر على أوروبا"، أو "أو- رابيا" أي "أوروبا العربية"، التي تعدّ أشهر هذه الأطروحات، وكان الأستاذ الجامعي البريطاني بات يعور، المولود في مصر، صاحب هذه النظرية. ووفقًا لها، يوجد محور سرّي عربي - إسلامي أوروبي قوي، يعمل على استغلال هشاشة أوروبا وضعفها، والقصد بأوروبا هنا، أوروبا التي لم تخرج بعد من صدمة البترول. وتقول هذه النظرية أيضًا أن البلدان العربية تمكّنت من إفساد أوروبا بواسطة البترو دولارات من خلال استثمار هذه الأموال في الشركات الكبرى أو من خلال شرائها كلياً.
ولا يبدو أن هذه "الأسلمة" تمس فقط الحركات المقرّبة من اليمين المتطرّف، بل تتجاوزها إلى الحركات اليسارية. إذ إن مؤسّسي موقع "ريبوست لاييك"، على شبكة الإنترنت، وكذلك مؤسسي موقع "الردّ العلماني" المقرّبين من أطروحات "أو - رابيا"، يقدّمون أنفسهم، باعتبارهم ينتمون إلى اليسار. وكان بعضهم تروتسكيًا أو صحافيًا في الموقع الجمهوري اليساري "ريبوبليكا" على الشبكة. ومع ذلك فقد "شعروا بالحاجة" إلى ضرورة المواجهة والردّ على ما يسمّونه "الهجمة" الإسلامية التي تهدف إلى تقويض الديمقراطية ووضع حدّ لحرية التعبير.
كانت هذه الحركة، أي الردّ العلماني" على رأس حملة التنديد بالصلاة في الأزقة بباريس، ورأت فيها "احتلالًا عسكريًا" من قبل المسلمين بتواطؤ مع الشرطة الفرنسية. ونتيجة للضجة التي خلّفها هذا النشاط، وقامت الجبهة الوطنية بالدعاية له، تمّ، للمفارقة، استدعاء أحد ممثلي الموقع وأخذ "مشورته" من قبل اللجنة البرلمانية في ما يخصّ وضع النقاب في فرنسا.
للحركة بعدٌ أوروبي واضح: إذ عقدت تحت إشراف "الإيكلا"، أي المعاهدة العالمية للحريات المدنية"، "مناظرة دولية لمناهضة الجهاد" في مدينة زوريخ عام 2010، كما نظّمت في باريس في ديسمبر/كانون الأول عام 2010، "الجلسات الدولية في موضوع أسلمة بلداننا"، بمشاركة شخصيات سياسية ومثقّفين. المعضلة أن هذا التصوّر لم يعد محصورًا في نطاق الإيديولوجية الراديكالية، بل انتشر أيضًا في أجهزة الإعلام، وفي خطابات المسؤولين السياسيين.
ها نحن قد تخلّصنا من الصورة الكلاسيكية التي سادت إلى زمن قريب والقائلة بـ"سرقة الأجانب لعمل الفرنسيين" وعدم اندماجهم، كما تجاوزنا الإسلاموفوبيا المبسّطة التي انتشرت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، لنخطو خطوة جديدة تؤكد على الرموز البارزة للأسلمة الجديدة من قبيل: اللحم الحلال، النقاب أو البرقع، إقامة الصلاة في الشوارع، السباق إلى بناء المساجد إلخ. وينظر إلى هذه الرموز كـ"مثاقفة مقلوبة". وفي هذا الموضوع، أسهب إلى حدّ الهوس، المعلّقون والمحللون الفرنسيون، وكوكبة من المثقّفين؛ فالمعلق السياسي إيفان ريوفول شبّه الوضع الحالي بسقوط القسطنطينية التي صارت عاصمة للحكم العثماني. أمّا المعلق الصحافي إيريك زمور، أو "نجم الشاشة"، فيرى أن لدى المسلمين رغبة في فرض مجتمع مضاد. ويعتقد بوجود مجموعة من المسلمين التي لا تصلي في الشوارع بسبب النقص في المساجد، بل بسبب "رغبة البعض في استعراض قوتهم". في حين يرى رئيس تحرير صحيفة لوفيغارو جان سيفيليا، في الإسلام "شيوعية القرن الواحد والعشرين". وفي الوقت الذي يشدّد فيه الفيلسوف آلن فينكلكروت، المناصر لإسرائيل، على استسلام النخبة أو تنازلها وصمتها أمام "عنف الإسلام"، فإنه يجد كتاب المسلمين المقدّس كتابًا عسكريًا، إذ يقول عنه : "القرآن كتاب حرب"، و"دليل ينمّي أخلاق الغزو".
مبعث الخوف ليس في الإسلاموية بل في الإسلام. لكن يبقى الكتاب الذي أصدره المحرر الأوّل في "ويكلي ستاندارد" والمساهم دوريًا في الفاينانشال تايمز، كريستوفر كالدويل، تحت عنوان: "ثورة تحت أعيننا: كيف سيغيّر الإسلام فرنسا وأوروبا؟" وعرف نجاحًا هائلًا، يبقى التصوّر الأكثر هلوسة. إذ حرّك فزاعات من نوع: تكاثر المسلمين ديمغرافيًا وبشكل سريع، وعدم قابلية الإسلام للاندماج، والمنحى الجهادي للإسلام، ورغبة المسلمين في فرض ثقافتهم وأساليبهم في العيش على حساب القيم الأوروبية. ويخلص الكتاب بعد هذه الجردة إلى القول إنه من الخطأ إبداء مزيد من التسامح مع المواطنين من دعاة هذه الديانة. وقد حظي الكتاب بمديح الأسبوعية الإنجليزية "ذي إيكونوميست".
يتقاسم بيرنار لويس مع كالدويل هذا التصوّر؛ فهو يرى أن الأوروبيين هم اليوم في طور فقدان الثقة في النفس، وبالتالي فإنهم لا يكنّون أي احترام لثقافتهم. وهم في وضع من الاحتقار الذاتي أمام التعددية الثقافية. ولهذه الأسباب يعتبر لويس أن "المسلمين قيد الاستيلاء على أوروبا".
تبقى هذه التصريحات "مخفّفة" إلى حدّ ما مقارنةً بما يسرّب على شبكة الإنترنت من شتائم في حقّ الإسلام والمسلمين. هذا من دون الحديث عن مختلف الاستفتاءات التي تنظّم بين الفينة والأخرى، ويتبيّن من خلالها أن "الإسلام يشكّل تهديدًا للمجتمع الفرنسي وأنه ينمو بسرعة" وآخر سمة تبعث على القلق، هي أن أصحاب نظرية الأسلمة، أي أسلمة الثقافات، والعقول الأوروبية، يناشدون المواطنين التعبئة ومقاومة المسلمين وذلك باسم الدفاع الشرعي.
إحدى ميزات كتاب "أسطورة الأسلمة، مقاربة لهوس جماعي" نقده المنهجي لمصادر الخطاب لا الاكتفاء بالتنديد به.
المساهمون