ربما ستصبح القمة الأوروبية التي أجاز فيها قادة المجموعة منتصف الأسبوع حزمة 1.8 ترليون يورو لإنقاذ اقتصاداتهم من كساد كورونا، قمة تؤرخ لولادة ما يطلق عليه باسم الولايات المتحدة الأوروبية، ليس بسبب ضخامة الحزمة المالية ولكن بسبب أسلوب تمويلها.
إذ ستتولى الكتلة الأوروبية ولأول مرة إصدار السندات وليس الدول، كما كان يحدث في السابق، كما أن البنك المركزي الأوروبي سيقوم بشراء سندات الدين التي تصدرها دول المجموعة الـ 27 وليس فقط سندات دول اليورو الـ 19، مثلما يشتري مجلس الاحتياط الفدرالي "البنك المركزي الأميركي" السندات التي تصدرها وزارة الخزانة الأميركية لتمويل الإنفاق الأميركي العام.
في هذا الشأن، قال النائب الألماني السابق في البرلمان الأوروبي، هانس أولف هينكل في تعليقات لصحيفة "ديلي أكسريس" البريطانية، إن "بريكست أفسح المجال لإنشاء الولايات المتحدة الأوروبية"، وذلك في إشارة إلى أن بريطانيا كانت ستمنع حدوث مثل هذا الاتفاق الذي أقر التمويل المشترك.
ويقدر حجم اقتصاد دول الكتلة الأوروبية بنحو 18.37 ترليون دولار، وهو بهذا الحجم قريب من حجم الاقتصاد الأميركي المقدر بنحو 20 ترليون دولار، كما يبلغ عدد سكان دول الكتلة الأوروبية نحو 445 مليون نسمة، أي ضعفا عدد سكان الولايات المتحدة. وهو ما يعني أن لديها قوة شرائية هائلة في حال تمكنها من خفض نسبة البطالة وزيادة معدلات الأجور.
لكن لا تزال العملة الأوروبية الواحدة، اليورو، أقل كثيرا في النسبة التي تشكلها من احتياطات البنوك المركزية العالمية عن الدولار، إذ إنها تمثل نسبة 20% مقارنة بالدولار الذي يمثل نسبة تفوق 60% من الاحتياطات العالمية بالعملات الصعبة. كما أن عملة اليورو تضم حتى الآن 19 دولة فقط من دول الاتحاد الأوروبي البالغة 27 دولة.
وفي شأن تداعيات القرار الأوروبي في التمويل المشترك، قارن المحلل المالي الكندي غريغ آي بي، في تحليل بصحيفة "وول ستريت جورنال" يوم الأربعاء، بين آلية التمويل الجديدة التي أقرتها قمة بروكسل الأخيرة بالإجراء الذي اتخذه وزير الخزانة الأميركي الكسندر هاملتون في القرن الثامن عشر وشكل أولى لبنات ولادة دولة أميركا الحديثة، أي الولايات المتحدة الأميركية الحالية.
إذ إن أولى الخطوات التي اتخذها الوزير هاملتون كان تولي الإدارة الأميركية مسؤولية الدين العام للولايات الأميركية التي انضمت للدول الفدرالية الجديدة. وشكل هذا الالتزام المالي النواة الأولى لولادة الولايات المتحدة الأميركية على عهد الرئيس جورج واشنطن.
وعلى الرغم من أن حزمة الإنعاش الاقتصادي الأوروبي لا تزال بحاجة إلى إجازتها من قبل البرلمان الأوروبي والبرلمان في كل دولة من الدول الأعضاء الـ 27، إلا أن هنالك تنازلات قدمت من الجانبين الألماني والفرنسي، بعد نقاش مستفيض، ربما ستمنح زعماء الدول المعترضة الحصول على موافقة برلماناتهم للخطة لتصبح سارية المفعول وقابلة للتطبيق.
وكانت كل من هولندا والنمسا والسويد والدنمارك تعارض الخطة، وترى فيها تقديم إعانات مالية وأموال مجانية لدول الجنوب الأوروبي، وتكافئها على التراخي في الإنتاج وزيادة الإنفاق على حساب مواطني الدول الأوروبية الغنية في الشمال. ولكن تمكنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمساعدة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من إقناع الدول الأربع المعترضة.
يذكر أن رؤية دولة "الولايات المتحدة الأوروبية" سبق أن طرحها رئيس المفوضية الأوروبية السابق، جان كلود يونكر، في خطابه السنوي عن حال الاتحاد الأوروبي في بروكسل في العام 2017. وتناول يونكر في طرحه رؤية استراتيجية موحدة للدول الأعضاء في الكتلة الأوروبية في السياسة الخارجية والدفاعية والنقدية.
وهذا الاتفاق الجديد على أسلوب التمويل عبر السندات التي تضمنها المفوضية الأوروبية، يمثل شبه انقلاب في البعد الاستراتيجي الأوروبي، إذ كانت أوروبا حتى بداية العام الماضي تئن تحت سياط التمزق العرقي، وتعاني من صعود شعبية التيارات القومية المطالبة بالانفصال والخروج من الاتحاد الأوروبي، في كل من فرنسا وهولندا وإيطاليا، فضلاً عن خروج بريطانيا من الاتحاد.
وربما تكون ضغوط كورونا التي وضعت الاقتصادات الأوروبية في مفترق الطرق بين إنقاذ دول الجنوب الضعيفة، وعلى رأسها إيطاليا واليونان وإسبانيا أو مواجهة الكتلة التفكك هو الذي ساعد المستشارة ميركل على الحصول على موافقة كل من النمسا وهولندا والسويد والدنمارك.
كما أن دول الكتلة الأوروبية واجهت خياراً صعباً في صراع الحرب التجارية الدائرة بين واشنطن وبكين، إذ عليها أن تحدد موقفها مع من ستتحالف، هل مع الصين التي لديها الأسواق الاستهلاكية الضخمة، ولكنها تؤثر سلباً على مستقبل صناعاتها واقتصادها، أم مع الحليف التقليدي، الولايات المتحدة، التي ترتبط معها بحلف دفاعي ونظام السوق الحر، ولكنها تفرض على صادراتها عقوبات الرسوم، وتعيش فترة من الخلافات الحادة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب الحالية بشأن الرسوم والنزاعات التجارية والسياسية. وعامل الخيارات الصعبة ربما ساهم في الاتفاق على تحمل تبعات التمويل المشترك ولو لمرة.
ويرى محللون أن أوروبا وجدت نفسها أمام خيارات محدودة، وهي إما أن تتماسك وتضحي بالمال أو أن تصبح ضحية للصراع الدائر حول بناء النظام العالمي الجديد بين بكين وواشنطن، في وقت يعمل فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب على دعم الأحزاب الشعبوية وتفكيك أوروبا.