أوروبا تختار عدوّها

05 ديسمبر 2015
+ الخط -
لأسباب جغرافية ـ سياسية، بات أمام أوروبا أحد خيارين. الأول، الذي تعتمده القارة أساساً، يُمكن وصفه بـ"حالة الصمود"، أو "حالة التلقّي"، بفعل تحوّل أوروبا، برمّتها تقريباً، إلى قارة مُدافعة، أو مُعالجة للمشكلات الناجمة عن الوضع السوري، سواء الهجرة واللجوء، أو اعتداءات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الأخيرة. هذا الخيار، تحديداً، لن يسمح لأوروبا بالصمود مطولاً، إن لم تُعالج المشكلة من الأساس: في سورية، بالنسبة للمهاجرين من الشرق، وفي ليبيا، بالنسبة للوافدين من القارة الأفريقية.
الخيار الثاني، الماثل أمام عيون الأوروبيين، يقضي بالمشاركة الهجومية، في القرار السياسي، أو العمليات العسكرية، ضد مسبّبي اللجوء والاعتداءات. تستلزم هذه المشاركة التمهيد لتحوّلات هائلة في العقلية الأوروبية، الغربية تحديداً، لجعل مجتمعاتها أكثر انخراطاً في ملفات خارجية، متعلّقة مباشرة بالداخل. لم يعد الأوروبيون مجتمعاً حربياً، كما كانوا سابقاً، فحياة الرفاه في محطات كثيرة تدفعهم إلى التروّي في أي عملية عسكرية، ولو خارج الحدود.
بالتالي، فإن الحافز الذي وفّرته الاعتداءات أخيراً جعل الأوروبيين أمام خطوة عملانية. بات التصويت على التدخّل العسكري في سورية والعراق أمراً من الماضي. كبار القارة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا، أضحوا في قلب الشرق الأوسط عسكرياً. قد يكون لإسبانيا وإيطاليا واليونان أدوار مماثلة في ليبيا، في المرحلة المقبلة.
ينتقل الأوروبيون، بموجب هذا الخيار، من الدفاع إلى الهجوم، لكنهم حالياً في موضع تردّد. روسيا على الخط، وسبقت الجميع في سورية. ضربت مرة "داعش" وعشرات المرات المعارضة السورية، يريد الروس ثمناً سياسياً لتدخلّهم العسكري. ثمن لا يُمكن أن يقبل به الأوروبي سابقاً: بقاء الرئيس السوري بشار الأسد، ولو لفترة انتقالية.
لم يكن ليقبل الأوروبي بقاء الأسد. أصلاً، لا يُمكن، بعد هذه السنوات الدموية في سورية، أن يقبل أحدٌ بقاء الأسد. لكنّ الأوروبيين باتوا على مشارف جعل الأسد "أولوية ثانية"، لا أولى. "داعش" هو الأولوية المُطلقة بالنسبة إليهم. ولا يرغبون في الدخول لضرب التنظيم، عبر طرفٍ ميداني محدّد، لعدم تكريس حضوره الإقليمي. لا يريد الأوروبيون الدخول عن طريق إيران، لعدم منحها ورقة أساسية في الملف السوري، على الرغم من أنها تملك ذلك أصلاً. ولا يريدون الدخول عن طريق تركيا، لعدم ترتّب أثمانٍ باهظة على ذلك، بدءاً من ترسيخ تأشيرة "شينغين"، وصولاً إلى تحوّل تركيا إلى العضو رقم 29 في الاتحاد الأوروبي. لا يكفي القارة "معاناتها" قبل التوقيع على اتفاقية داعمة لتركيا، يوم الأحد الماضي، لمساعدتها على الاهتمام باللاجئين. لن تقبل أوروبا منح أدوار أكبر لتركيا. بالتالي، لا يبقى أمام الأوروبيين سوى عامل واحد: روسيا.
في هذا الصدد، يعود مؤرخون بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، التي شهدت تلاقياً من مختلف الأطراف الأيديولوجية، لكسر النازية الألمانية. كان على الغرب الاختيار بين عدوّين، أحدهما أقلّ سوءاً بالنسبة إليه من الآخر. بين الشيوعيين السوفييت من جهة والنازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين من جهة أخرى، اختار الغرب السوفييت. اختارهم لكونهم اصطدموا، فعلاً، مع الألمان في معركة ستالينغراد. سمح هذا الاصطدام بزحف الجميع إلى العاصمة الألمانية برلين وتقسيمها.
كان على الأوروبيين الاختيار بين روسيا و"داعش". روسيا عدو تاريخي لهم، أما "داعش" فعدو مرحلي. باتت دائرة الاختيار أكثر وضوحاً بعد التفاهم الفرنسي ـ الروسي، وانضمام الألمان والبريطانيين إليهما، وإنْ بصورة غير مباشرة. اختار الأوروبيون روسيا على حساب "داعش"، رافضين، في الوقت نفسه، الاعتماد على حليفٍ إقليمي، كتركيا أو إيران، مؤهل للنمو لاحقاً وتهديد مصالحهم. كما أن هذا الاختيار سيُساعد على بقاء الأسد فترة إضافية، وفقاً للمفهوم الروسي. لكن، قد يدفع الأوروبيون ثمناً باهظاً لاحقاً، ففلاديمير بوتين لن يقبل بالقسمة، لا في سورية، ولا في أوروبا لاحقاً، عكس ما فعل جوزيف ستالين.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".