أوروبا تتمرد على دور "الصليب الأحمر"

23 ديسمبر 2014
الرأي العام الأوروبي بات يرفض سياسات إسرائيل (فرانس برس)
+ الخط -

صوّت البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، وقبل ذلك قررت محكمة العدل الأوروبية شطب حركة "حماس" من قائمة الاتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية، وتزامن ذلك مع اعتراف السويد رسمياً بدولة فلسطين، وتصويت برلمانات بريطانيا ثم ايرلندا وإسبانيا وفرنسا، لصالح الاعتراف بدولة فلسطين.

ولم تكتفِ أوروبا بذلك، بل تقدمت خطوة إلى الأمام على المستوى الدولي، عندما طرحت فرنسا مدعومة من بريطانيا وألمانيا مبادرة مشروع قرار يُقدّم إلى مجلس الأمن الدولي، وينص على ضرورة تحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وتمهيد الطريق لقيام دولة فلسطينية. وهو المشروع الذي تمت مزاوجته بالمشروع الأردني-الفلسطيني الذي قُدّم فعلياً لمجلس الأمن.

العودة الأوروبية إلى الملف الفلسطيني الإسرائيلي، وإن كانت لغاية اللحظة رمزية، إلا أنها تدل على أن أوروبا قررت التوقف عن لعب دور "الصليب الأحمر" و"الجمعية الخيرية"، ولم تعد تكتفي بدور "صندوق" المنح المالية والمساعدات الإنسانية وإعادة إعمار ما تدمره آلة الحرب الإسرائيلية، بينما تُقصى عن أي جهود سياسية في عملية المفاوضات الخاصة بالشرق الأوسط والمستمرة منذ ما يزيد على عشرين عاماً.

أسباب هذا "التمرد الأوروبي" على سياسة الإقصاء الأميركية الإسرائيلية، تتمثّل أساساً في عوامل رئيسية تراكمت عبر العقود الماضية وما شهده العالم من تحوّلات سياسية وتقنية.

العامل الأول يتمثّل في أن الرأي العام الأوروبي لم يعد قادراً من الناحية الأخلاقية على الاستمرار بقبول ما تقوم به الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، من سياسات عدوانية واستيطانية تضرب عرض الحائط كل النداءات والمواقف الدولية الرافضة للاستيطان، واستمرار قصف المدنيين الفلسطينيين والاعتداء على الحجر والبشر في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

العامل الثاني يكمن في أن صنّاع القرار الأوروبي بدأوا يفقدون القدرة السياسية لتبرير سياسات إسرائيل التي تتجاهل نصائحهم، وتطالبهم دوماً بالدفاع عن أفعالها التي لم يعد بالإمكان الدفاع عنها، على حد تعبير أكثر من مسؤول أوروبي.

أما العامل الثالث فيتمثّل في تحرر الجيل الشاب من المجتمعات الأوروبية من عِقد الماضي "الهلوكوست" التي لم يرها ولم يعايشها، وتفصله عنها زمنياً حوالي 70 عاماً. هذا الجيل بات أقرب للتفاعل مع الأحداث الآنية التي يرى فيها آلة الحرب الإسرائيلية المحرّمة دولياً تُوغل في الدم الفلسطيني في بث حي ومباشر.

السبب الرابع يتمثل في انتشار وسائل الإعلام الجديدة، وقنوات الإعلام الاجتماعي التي حرّرت الجمهور الأوروبي من هيمنة وسيطرة وسائل الإعلام الرسمية والخاصة التي هي في الغالب مملوكة لرؤوس أموال صهيونية أو مُهيمن عليها إعلانيا من قبل شركات صهيونية عابرة للحدود. وقد دأبت وسائل الإعلام الأوروبية التقليدية على غسل أدمغة الرأي العام الأوروبي بـ "الرواية الإسرائيلية" بكل ما فيها من دعاية سوداء وأكاذيب وتضليل، من دون الاكتراث بـ "الرواية الفلسطينية" بكل ما فيها من تشريد واغتصاب وضحايا.

المتلقي الأوروبي المعاصر تحرّر من إعلام "بي بي سي" و"فوكس نيوز" و"سكاي" و" سي إن إن"، وبات يتلقى الصور مباشرة على أجهزة الهاتف النقال ومواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يغتالها مقص رقيب أو يشوهها "مونتاج" إعلامي محترف.

ناهيك عن أسباب أخرى من قبيل ما تمثله إسرائيل من عبء اقتصادي على دافع الضرائب الأوروبي، الذي يعاني أصلاً من تراجع في مستوى المعيشة وتفاقم أزمات بلاده الاقتصادية مثل البطالة والتضخم وتراجع الخدمات الصحية والتعليمية. وبالتالي بات يرفض تقديم معونات "إجبارية" سنوية لإسرائيل تنفقها الأخيرة على التسليح وخوض حروب لا متناهية في المنطقة.

إضافة إلى ذلك تراجع دور إسرائيل العسكري كـ "حامي المصالح الأوروبية الأميركية" أو "الشرطي" في الشرق الأوسط، وفشلها في أداء هذه المهمة، بل وتحوّلها إلى "بلطجي" يتطاول على القانون الدولي والقيم الإنسانية الأوروبية.

يبدو إذاً أن أوروبا الجديدة قررت التمرد على التفرد الأميركي بملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خصوصاً وهي ترى أن الولايات المتحدة الأميركية، المنحازة بشكل أعمى لإسرائيل، لم تعد صالحة للقيام بدور الوسيط النزيه، وتمرّدت على نفسها بأن خلعت قميص "الصليب الأحمر" و"سيارة الإطفاء" و"الجمعية الخيرية"، واختارت أن تعود إلى مقعدها الطبيعي، الفاعل والمؤثر في مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي.

وبانتظار المزيد من السياسات الأوروبية الجريئة، تظل عيون المراقبين مفتوحة على ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية، التي ظهرت نذرها الأولى بالهجوم الإسرائيلي على النواب والساسة الأوروبيين الذين وصفهم، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالمنافقين الذين لم يتعلموا شيئاً من التاريخ.

المساهمون