أوراق بنما و"أقنعة الضحايا"

26 ابريل 2016
+ الخط -
حمداً لبنما التي برهنت على نظافة أيدي المسؤولين العرب من تهم التهرّب الضريبي، بدليل أن تلك القائمة "الفضيحة" التي سرّبتها وسائل الإعلام العالمية لم تكن تشتمل إلا على بضعة أسماء عربية، لا يعتدّ بها على مقياس الشفافية العالمي، وهذا ما يدحض سائر التهم التي أثخنّا بها كاهل المسؤولين العرب، ونحمد الله على سعة صدورهم وتحمّلهم لنا، وإلا كنا ملاحقين، الآن، قضائياً بتهم القذف والتشهير، على أقل تقدير.
فأن تضم القائمة من ضمّتهم، فذلك يثبت بالملموس أننا نتمتع بما ينوف على زعماء بلاد عربية يقطرون نزاهة وبياضاً يفوق بياض منظفات الغسيل، إلى جانب عشرات الأبناء والأحفاد، الذين ورثوا عن آبائهم براءة الذئب من دم يوسف، وما علينا بعد الآن غير الكفّ عن إطلاق مثل هذه الحجج والذرائع الواهية، لتحميل مسؤولينا وزعمائنا مسؤولية الفساد الذي بلغ حناجرنا.
حريٌّ بنا، بعد الآن، أن نفتش عن الشعوب العربية؛ للوقوف على أسباب الفساد، مرجّحاً أن أسماءنا سقطت سهواً من تلك القائمة الفضيحة، فالمعادلة باتت واضحة: إما الزعماء ومؤسساتهم وأذنابهم، أو الشعوب، ولا مكان للّصوص خارج المعادلة.
ربّ قائل: "وما حاجة الزعماء والمسؤولين العرب، للتهرّب والمراوغة للتستّر على منهوباتهم، الضريبية وغيرها، ما داموا لا يقيمون أي وزن لشعوبهم وردات أفعالها، وما داموا هم الخصم والحكم في معادلة القضاء العربية؟"، ورب متهكّم آخر يدّعي أن السلطويين العرب ينهجون أقصى درجات الشفافية، وهم يسرقون "على المكشوف"، ويستولون على المقدّرات والثروات في وضح النهار، ولا يحتاجون إلى وضع جوارب نسائية على رؤوسهم، بل وأكثر من ذلك، فهم يعلنون، صراحةً، في أثناء سطوهم بالفم الملآن: "من أراد أن تثكله أمه فليلحقني إلى بطن ذلك البنك"، أو "فليتجرأ على فتح ملفات حساباتي". وفي مثل هذه الحالة، لا يحتاج ولاة أمورنا إلى محققين ومدققين، لنبش حساباتهم المنبوشة أصلاً على الملأ، ولا يحقّ لأحدٍ أن يتهمهم بالسطو المقنّع، لأن الفضيحة لا تطال المفضوحين، بل المتخفين وراء حجب الفضيلة والنزاهة.
أكثر من ذلك، يزعم متخرّص أن العرب باتوا يحتاجون إلى قائمة "فضيلة" معاكسة لقائمة "الفضيحة" البنمية، تضم فلول المنزّهين عن الفساد، والتي لن يظهر فيها غير بضعة أسماء، تضاهي نظراءهم العرب في قائمة بنما، فيما يذهب ساخرون آخرون إلى أن القائمة العربية، إذا أريد لها أن تمتد لتشمل بقية الفضائح الأخرى، كانتهاكات حقوق الإنسان، والقمع والكبت ووأد الحريات، والذبح على الهوية والطائفة، والتهميش و"التطفيش"، لن يكفيها من الطول والعرض مساحة القارات بأكملها، لا مساحة بنما فحسب، وهي قائمةٌ لا تقتصر على المسؤولين والطغاة وحدهم، بل تشمل قطاعاتٍ واسعة من الشعوب أيضاً التي تساهم في هذه الطاحونة الدموية، سواء بقابليتها للفساد، أو بإنتاجها الطغاة والسكوت عليهم، أو بإغلاقها نوافذ رياح التغيير، والتزامها بحوائط "الستيرة".
على ذلك، يدعو المتهكّم نفسه منظمات الشفافية الدولية إلى ابتكار قائمةٍ جديدة خاصة بالعرب وحدهم، للبحث عن أي كائن جديدٍ، قاده حظه العائر إلى النجاة من طاحونة الفساد والدماء والسطو المباح، كما يدعو إلى قلب معادلة الأقنعة، بحيث يصبح لزاماً على المسروق أن يضع قناع الإخفاء بدل اللص، والضحية بدل الجلاد، والمقتول بدل القاتل، لأن هؤلاء باتوا هم المدانين في العرف السلطوي العربي السائد.
أما في ما يخص أوراق بنما إياها، فيقول المتهكّم إنها حتى لو اقتصرت على المفسدين العرب، بآلافهم وملايينهم، لن تحرّك شعرة واحدة في أجسادهم المنتفخة بالغنائم التي تحصّلوا عليها من غزواتهم "المشروعة" على بني جلدتهم.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.