أوجاع من حرب العراق وإيران
لم يكن الإيرانيون عقلانيين، حينما اعتقدوا أن تحرير القدس يمر عبر بغداد، وأن مشروعهم الإمبراطوري يمكن أن يكتسح الإقليم، كما لم يكن العراقيون حكماء، بما يكفي لفهم حركة العالم من حولهم، عندما تصوروا أن حرباً لستة أيام فقط سوف تقصم ظهر نظام طهران الجديد، وتضع العراق على رأس إقليم يموج بالنفط والنار، هكذا استمرأ الطرفان اللعبة في البداية، وانخرطا فيها، وشرعا يتحصنان داخلها، يدفعهما شعور بالغرور، يكفي لحرق مدنٍ بكاملها، وذهبت سدى محاولات قادة وزعماء وجهات دولية إطفاء مستصغر الشرر قبل اتساعه. أما بالنسبة لنا، نحن العراقيين، فقد أصبح، آنذاك، حتى الكلام في لا جدوى الحرب نوعاً من إهدار الزمن، إن لم يعد ضرباً من خيانة الوطن!
هل كانت الحرب لنا ضرورة؟ هذا السؤال كثيراً ما كان يطرق الرأس ويؤرقنا، لكن ماكينة الحرب الإعلامية كانت تصد كل سعي إلى معرفة وجوه الحقيقة. في حينها، كانت عملية العبث بالتاريخ، وقيل "إعادة كتابته" تكمل لعبة العبث بالسياسة، أو إعادة إنتاجها، إلى درجة تحشيد رموز وأحداث وحكايات محددة، على نحو انتقائي، لإرساء رؤية للماضي تخدم توجهات الحاضر، وتمنحنا شعوراً بالرضا عما يجري أمام أعيننا.
وفي السياسة، كانت هناك جهات وقوى تعمل على إذكاء نار الحرب، لغرض إضعاف البلدين معاً، ومن ثم تقويضهما الواحد بعد الآخر، وكشفت صحيفة نيويورك تايمز، بعد نشوب الحرب بأسابيع، عن أن أحداً ما وضع على طاولة الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، تقريراً مفصلاً عن أوضاع إيران بعد "الثورة الإسلامية" يشير إلى سيادة حالة الفوضى، وتعدد مراكز القرار، وتصاعد الخلافات بين جماعات الثورة، وضعف القدرات العسكرية للبلاد. وحمل التقرير، بحسب مصادر الصحيفة، إشارات محرضة على القيام بضربة، أو ضربات عسكرية، ضد إيران.
وعلى الجانب الآخر، نبه قادة وزعماء عالميون العراق إلى خطورة الدخول في لعبة النار، من ذلك ما أفادني به مسؤول عراقي سابق، كان زار نيودلهي قبل نشوب الحرب، من أن رئيسة وزراء الهند الراحلة، أنديرا غاندي، أودعته رسالة إلى الرئيس صدام حسين، لم تشأ أن ترسلها بالطرق الدبلوماسية المعروفة، تشير فيها إلى خطط لغرض زعزعة استقرار المنطقة، محذرة العراق من اتخاذ أية خطوة عسكرية تصعيدية ضد نظام طهران، وما قد يسببه ذلك من مخاطر على الأمن الإقليمي.
وإذ لاقى التقرير الذي قيل إنه وضع على طاولة صدام هوى عنده، لسبب أو لآخر، فإن رسالة أنديرا غاندي حجبها عنه بعض مساعديه، لسبب غير معروف، بحسب ما أكده لي حامل الرسالة نفسه!
كان هناك، إذاً، سعي محموم من أطراف غامضة لإشعال المنطقة، وكما كان الإيرانيون، وهم، في غمرة هوسهم بنجاح الثورة، يأملون تكرار السيناريو الإيراني في بغداد، كان العراقيون يخشون تمدداً إيرانيا داخل المجتمع العراقي، قد يزعزع وحدته، ويعرّض تجربته "القومية العلمانية" للانهيار، ولم يدرك أي من البلدين أنه ليس في وسعه شطب الآخر من الخارطة الإقليمية، أو نقل موقعه الجغرافي إلى قارة أخرى!
وهكذا برز "الخيار الخطأ" في الزمن الخطأ، واندفع الطرفان نحو حرب شاملةٍ، خسر العراق وحده فيها، على امتداد ثماني سنوات عجاف، قرابة 500 مليار دولار، أي ما يساوي أكثر من ثلاثين مرة ميزانية البلاد للعام 1980 الذي نشبت فيه الحرب، كما خسر من أبنائه أكثر من مليون بين قتيل وجريح ومفقود ومهجر، وانفتح الطريق أمام ترييف المدن، وانهيار آخر مظاهر الحضارة والمدنية.
وعندما أجبر العراقيون خصمهم العنيد الخميني على تجرع كأس السم، وخفتت أصوات البنادق على جانبي البلدين، شعروا بفظاعة ما حدث، فالحرب، كما تقول أجاثا كريستي، "لا يمكنها حسم أي شيء، والانتصار في حرب مثل خسارتها تماماً"، لكن، للأسف، عادة ما يدرك المرء هذه الحقيقة في نهاية الحرب، وليس في بدايتها.