أوباما في رحلة "الوداع": مواجهة تصاعد النزعات القومية

17 نوفمبر 2016
اختار أوباما قلعة "الأكروبوليس" لتوجيه رسائله (بريندان سميالوسكي/فرانس برس)
+ الخط -

ألقى فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية بظلال ثقيلة على زيارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، إلى اليونان، كمحطة أولى في جولة أوروبية، يُفترض أنها "وداعية"، وإذ بها تتحوّل إلى خطاب مليء بالمخاوف، كما ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية في افتتاحية الأمس. اختار أوباما قلعة "الأكروبوليس" اليونانية، ليخاطب العالم، وربما ليخاطب خلفه المُنتخب دونالد ترامب، مؤكداً على المخاطر والتحديات التي تواجهها قيم الديمقراطية، والتعايش السلمي في العالم. وقال أوباما، من اليونان، مهد الديمقراطية، إن أوروبا غرقت منذ وقت قريب في حمام دم بسبب السياسات الخلافية، وعلى العالم "الحرص من الانجرار مُجدداً إلى مستنقع القوميات العرقية، والعصبيات الوطنية الصاعدة، والتي لن نجني منها سوى العودة إلى المزيد من الخلافات والصراعات، كما كان حال أوروبا في القرن العشرين". وبالإشارة إلى الغضب والخوف اللذين تجليا بعد فوز ترامب المفاجئ، حذّر أوباما من العودة إلى أشكال العنصرية والتعصّب التي كانت تقسم الأميركيين في السنوات التي خلت، معتبراً أن سياسة التقسيم يمكن أن تشل إمكانات وطاقات دول مثل الولايات المتحدة.

وأشار أوباما إلى أن نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية وقنبلة "بريكسيت" البريطانية تشكّلان دليلاً على التحوّل نحو الشعبوية التي ولدت مع تزايد المخاوف من العولمة وعدم المساواة، والتفكك، والارتفاع الحاد في استخدام التكنولوجيا في الحياة اليومية. وقال إن "العولمة، جنباً إلى جنب مع التكنولوجيا، ووسائل الاعلام الاجتماعية، والتدفق المتواصل للمعلومات، أربكت حياة الناس بشكل ملموس للغاية، وأثرت عليهم اقتصادياً ونفسياً". وأضاف "لا شك في أن كل هذا أنتج الحركات الشعبوية، سواء من اليسار أو اليمين، وما علينا إلا الانتظار لنرى ما إذا كانت هذه الوصفات، من قبيل بريكسيت أو الانتخابات الأميركية، ستلبي فعلاً متطلبات هؤلاء الناس". وأضاف "بمواجهة هذه الحقيقة الجديدة من صدام الثقافات، من الطبيعي أن يسعى بعضهم إلى الاختباء وراء القومية".

وعلى الرغم مما طبع خطابه من نبرة قلقة، حاول أوباما، والذي سيتوجّه من اليونان إلى ألمانيا للقاء المستشارة، أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، ورئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، ورئيس الحكومة الإيطالي، ماتيو رينزي، ورئيس الحكومة الإسباني، أريانو راخوي، طمأنة الحلفاء في أوروبا، بالتأكيد على أهمية بقاء "أوروبا قوية وموحّدة"، والمحافظة على حلف شمال الأطلسي قوياً، وضرورة مواجهة تصاعد النزعات القومية بسبب إحباط الناس وخيبة أملهم. وأعرب أوباما عن ثقته بأن التزام الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي سيستمر، في مسعى لطمأنة الحلفاء بأن ترامب سيحافظ على المصالح الاستراتيجية الأميركية الأساسية في جميع أنحاء العالم. وقال "اليوم حلف شمال الأطلسي أعظم حلف في العالم لا يزال قوياً ومستعداً كما هو الحال دوماً. وأنا على ثقة من أنه مثلما ظل التزام أميركا للحلف العابر للأطلسي صامداً سبعة عقود، سواء كان تحت إدارة ديمقراطية أو جمهورية، فإن هذا الالتزام سيستمر، بما في ذلك تعهدنا والتزامنا بالدفاع عن كل حليف بموجب المعاهدة". وأضاف "ديمقراطياتنا تظهر أننا أقوى من الإرهابيين والأصوليين وأنصار الحكم المطلق الذين لا يتقبّلون الاختلاف، والذين يحاولون تغيير أنماط حياة الناس من خلال العنف ويريدون منا أن نتخلى عن مبادئنا... الديمقراطية أقوى من منظمات مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)".

ومع كل القوة التي اتسم بها خطاب أوباما، إلا أن المراقبين في أوروبا يرون فيه "خطاباً هشاً"، لن يقوى على تبديد الغيوم الثقيلة التي تغطي سماء العواصم الأوروبية منذ الإعلان عن فوز ترامب بالانتخابات الأميركية، كما ذكرت "الغارديان" في افتتاحية الأمس. فالمخاوف الأوروبية من رئاسة ترامب لا تنحصر في الخشية من تشجيع الحركات القومية الشعبوية في أوروبا، أو إضعاف حلف شمال الأطلسي، أو حتى الشك في إمكانية إنجاز اتفاق التجارة والاستثمار عبر الأطلسي، والذي اعتبره مسؤول ألماني "غير واقعي" تحت رئاسة ترامب، فأوروبا تبدو أكثر قلقاً، بعد فوز ترامب، على قيمها الاجتماعية والسياسية، من القلق على مصالحها الاقتصادية أو الأمنية، وقد انعكس ذلك جلياً في رسالة التهنئة التي أرسلتها ميركل إلى ترامب، إذ شدّدت على ضرورة تعزيز "التعاون الوثيق" على أساس "القيم المشتركة"، من "ديمقراطية وحرية، واحترام سيادة القانون، واحترام كرامة كل فرد، بغض النظر عن الأصل أو لون البشرة أو العقيدة أو الجنس أو التوجّه الجنسي، أو الآراء السياسية". وكما تقول الكاتبة في صحيفة "الغارديان"، ناتالي نوغايريد، فقد شكّل انتصار ترامب ضربة في جذور المشروع الأوروبي، إذ لم تعد أميركا، مثال الديمقراطية، قادرة على المساهمة في الحفاظ على القيم المشتركة للنظام العالمي الليبرالي، كما أن تصاعد الخطاب اليميني الانعزالي في أوروبا يمثّل أكبر تهديد للغرب منذ الحرب العالمية الثانية. وتوضح الكاتبة أن ميركل، والتي تبدو أقوى زعيم محترم اليوم، شعرت على الفور بالتناقض بين 9 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989، عندما احتفلت ألمانيا ومعها العالم بانهيار جدار برلين، وما حمله ذلك الحدث من أمل، وبين 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، والذي أتى بدونالد ترامب رئيساً للدولة الأعظم في العالم، وما حمله ذلك من شؤم وقلق. وربما هذا ما يُفسر أولويات قلق ميركل، والتي تحدثت في رسالتها للرئيس الأميركي المنتخب، عن قيم الديمقراطية والحرية، بدلاً من التعبير عن مخاوفها من فشل المباحثات التجارية بين أميركا وأوروبا، أو التعبير عن قلقها من تراجع الدعم الأميركي لحلف شمال الأطلسي.

المساهمون