02 نوفمبر 2024
أن تكون سجين رأي في مصر
طوى الانقلاب العسكري في مصر سنته الخامسة، وطوى معه أحلام ملايين المصريين بإقامة جمهورية ديمقراطيّة، تعدّدية، تقدّمية عادلة، فبعد سنوات من أحداث يوليو/ تموز 2013 الدّامية، وتغيير الحكم بقوّة العسكر، ما زالت أرض الكنانة ترزح تحت قانون الطوارئ، وتشهد تدهورا غير مسبوق في مجال حقوق الإنسان. وذلك في ظلّ احتكار النظام الفضاء العام، والتضييق على الحرّيات العامّة والخاصّة، وتزايد وتيرة اعتقال المعارضين، والرّقابة على الإعلاميين والحقوقيين، ومحاصرة الناشطين في المجتمع المدني من قضاةٍ، ومدوّنين، ومحامين ونقابيين، وغيرهم. وفي الأثناء، يقبع آلاف سجناء الرّأي المنتمين إلى أطياف سياسيّة ومدنيّة متباينة في معتقَلات النّظام، بحجج واهية وتُهم غير ثابتة، وذلك بشُبهة معارضتهم الحُكم العسكري، وانتمائهم إلى جمعيّات مدنيّة "مشبوهة" وأحزاب محظورة، خارجة عن سمت النّظام (ليبراليّة، أو إسلاميّة، أو قوميّة، أو يساريّة..). ويعيش هؤلاء على اختلافهم ظروفا سجنيّة صعبة، ويواجهون محاكماتٍ جائرة، وأحكاما قضائية قاسية، ومستقبلا حياتيّا ومهنيّا غامضا.
وتفيد تقارير منظمات حقوقية موثوقة، ومراكز بحثيّة وازنة، بأنّ عدد سجناء الرّأي في مصر، بعد الانقلاب، يُقدّر بنحو 65 ألفا، توزّعوا بأعداد مختلفة وفترات متفاوتة على 64 سجنا، شُيّد 19 منها بعد الإجهاز على التجربة الديمقراطيّة الوليدة سنة 2013، وكلّف إنشاؤها ميزانية الدولة مليارات الجنيهات. وتعجّ السجون المصريّة بآلاف المعتقلين على خلفيّة قضايا سياسيّة، تتّصل بالتظاهر السلمي، والتدوين، والتعبير عن الرّأي، والانضمام إلى جماعةٍ غير مرخّص فيها. وجاء في تقرير بعنوان "صرخة وطن.. متى تنتهي؟" أصدرته التنسيقيّة المصريّة للحقوق والحرّيات سنة 2017 (منظمة مصريّة ترصد واقع حقوق الإنسان في مصر بناء على شهادات وتسريبات وبيانات من داخل مصر) أنّها رصدت توقيف واحتجاز واعتقال
23500 مواطن مصريّ سنة 2015 على خلفيّة انتمائهم السياسي، في مقابل 5502 سنة 2016 و1477 سنة 2017، من بينهم 52 سيّدة وفتاة، و65 طفلا. وتقدّر عدد من قضوا نحبهم من سجناء الرأي منذ 3 يوليو/ تموز 2103 بـ 439 سجينا. وتقول التنسيقيّة في تقرير آخر (الحصار: حقوق الإنسان في مصر 2016) إنّ سجناء الرأي في المُعتقلات المصريّة يُعانون من انتهاكاتٍ جسيمة تمسّ أوضاعهم النفسية والبدنية والحقوقية، وتندرج تحت طائلة التعذيب وسوء المعاملة. ورصدت التنسيقيّة حدوث 347 واقعة تعذيب في السجون المصريّة سنة 2016. وقضى تحت التعذيب 27 سجينا سياسيّا سنة 2015 و14 آخرون سنة 2016. وطُرق التعذيب مُتعدّدة، منها ضرْب أعوان السجن مُعتقَلي الرأي، بسبب أو من دون سبب، بالمواسير، والأحزمة، والخراطيم، والكرابيج (السياط) على مواضع حسّاسة من أجسامهم، وإجبارهم على خلع ملابسهم، وإيداعهم في عنابر مكتظّة بالسجناء الجنائيين المحكومين بالمؤبّد أو الإعدام قصد تخويفهم، وكذا دفْع بعضهم أحيانا إلى قضاء الحاجة أمام بعض في عنابر من دون سواتر، وقطع المياه والتيّار الكهربائي ساعات طويلة عن الزنازين التي يُنزل فيها سُجناء الرّأي، وتعمّد مداهمتهم في أوقات مختلفة من اللّيل، بتعلّة التفتيش المفاجئ، والمتكرّر من دون موجب، إمعانا في إرباكهم ولإفساد نومهم، وقصد إشاعة الفزع والخوف في نفوسهم. كما يجري تغريب آخرين، أي نفيهم من سجن إلى آخر، بعيد عن مقرّ سُكناهم، لإلحاق الأذيّة بهم وبذويهم، وحرمانهم من الزّيارة، وتلقّي الطعام بشكل متواتر ومنتظم.
وفي سياق سوء المُعاملة، يُحرم سُجناء رأي في مُعتقلات مصر من مواصلة مشوارهم الدراسي، ومن تلقّي الأقلام والأوراق من الخارج، ويُمنع آخرون من الفُسحة في باحة السجن (مقدّرة بـ 30 دقيقة يوميّا)، ويحدُث أن يتمّ الاستيلاء على مُتعلّقاتهم الشخصية (مواد غذائية، أغطية، مذكّرات، رسائل..)، وكثيرا ما يجدون أنفسهم عُرضةً للشتم والتهديد والتحقير والتهكّم داخل المعْتقل وخارجه. وبحسب تقارير متواترة، لا تتوفّر مُعظم الزنازين المصريّة على أدنى الظروف الصحيّة، لضيقها، وكثرة المُعتقلين فيها، ولقلّة التهوئة وكثرة الرطوبة فيها، وندرة دخول الشمس إليها. وهو ما يجعل سُجناء الرّأي فريسة الأمراض والأوبئة. وفي هذا السياق، سجّلت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات مقتل 34 من سجناء الرّأي في المعتقلات المصرية سنة 2016 بسبب الإهمال الطبّي، فيما قضى 15 آخرون نحبهم للسبب ذاته سنة 2017.
وجاء في تقرير لمنظمة العفو الدولية (مايو/ أيّار 2018) بعنوان "سحق الإنسانية: إساءة استخدام الحبس الانفرادي في السجون المصريّة" (78 صفحة) أنّ عشرات المُحتجزين المحسوبين على المعارضة والناشطين في المجاليْن، الحقوقي والإعلامي، يُعزلون، و"يُحبَسون في سجون انفراديّة لمُدد طويلة، تصل إلى عدة سنوات، ويُمنعون من التواصل مع العالم الخارجي، ويُجبرون على البقاء في ظروفٍ مُزرية، مُريعة في زنازين ضيّقة، تنتشر بها الحشرات، وتتسرّب إليها مياه الصّرف الصحّي، ويتعرّضون أحيانا للضرب بالهراوات المطّاطية، ويُجبرون على غمر رؤوسهم في أوعية ملوّثة". وأدّى ذلك عمليّا إلى إصابتهم بعاهاتٍ بدنيةٍ وأمراض نفسيّة، من قبيل "نوبات الهلع والارتياب، وفرط الحساسيّة للمؤثّرات الخارجية بالإضافة إلى صعوباتٍ في التركيز وفي الذّاكرة". وإذا شكا هؤلاء إلى إدارة السجن أوضاعهم المُزرية، لا يجدون التجاوب المطلوب. بل قد تُضاعف عليهم العقوبة، وتشتدّ بهم النّكاية، لأنّ "حُرّاس السجن يفعلون ما يحلو لهم من دون حسيب أو رقيب"!
ولا تنتهي مُعاناة سجين الرّأي في مصر بخضوعه لمحاكمةٍ غير عادلة، أو بانتهاء مدّة محكوميّته، وخروجه من المُعتقَل، ذلك أنّه يخرج عمليّا من سجن صغير إلى سجن كبير. فيجد نفسه رهين المحبسين: المراقبة الإداريّة والمُلاحقة الأمنيّة اللّصيقة، فيُمضي سحابة يومه في مراجعة مخافر الشرطة، للتوقيع على حضوره. كما يُفصل بطريقة تعسّفية من العمل في القطاعين، الحكومي والخاصّ. ويُمنع من السّفر والنجاح في المناظرات العموميّة. ويُمعن جُلّ النّاس في تهميشه وتلافي التواصل معه. ولا تبذل السلطات المصريّة جُهدا يُذكر لإعادة إدماجه في الحياة المهنيّة والاجتماعية، على نحو يزيد من إحساسه بالعُزلة، والعطالة، والإحباط، والدونيّة، ويجعله مدار استهداف الجماعات المتشدّدة التي قد تستغلّ هشاشة وضعه النفسي والمادّي والاجتماعي، لتُطيحه في قاع التطرّف.
وبناء عليه، أن تكون سجين رأي في مصر، فيعني ذلك أن تُعاملك الأجهزة الأمنية والسلطوية
شخصا غير مرغوب فيك. بل أنت من منظورهم "إرهابي" بالقوّة، ونشاطك المدني/ السلمي خطر على النظام الحاكم، وعلى هندسة الدولة الشمولية. ويزيد هذا النهج في التعامل مع سجين الرّأي من إحساسه بالتهميش، والإقصاء، وسوء المعاملة داخل السجن وخارجه، ويقلّل من ثقته في الدّولة والمجتمع، ويجعله يشعر بأنّه مواطن من درجة دُنيا.
يُمكن القول، ختاما، إنّ سياسات إقصاء سجناء الرّأي، ومعاملتهم معاملة تمييزية تعزّز حالة الاحتقان داخل المجتمع المصري، وتتعارض مع الدستور المصري والمواثيق الحقوقية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تنص على حرّيات الضمير والتفكير والتعبير والتنظّم، وتمنع اعتقال النّاس بسبب أفكارهم ومعتقداتهم. واستمرار النظام العسكري في إنكار وجود سجناء رأي مع تشديد العقوبة عليهم، والإمعان في إهانتهم وتعذيبهم، لا يخدم سجلّ مصر في مجال حقوق الإنسان، ويزيد من عُزلتها في المحافل الدولية، ويعمّق الفجوة بين الحاكم والمحكوم، ويُنذر بتزايد منسوب السّخط والتطرّف في البلاد.
وبدل التمادي في سياسات الإبعاد، والاعتقال التعسّفي والمحاكمات العسكريّة، يُفترض التوجّه نحو إدماج سجناء الرّأي، والتخفيف من مُدد محكوميّتهم، والسماح لممثّلي المنظمات الحقوقية الأممية والمحلية بالوصول إليهم، والعمل على تصفير السجون المصريّة من مُعتقلي الرّأي، وتسهيل انخراطهم من جديد في الحياة المهنيّة والاجتماعيّة. وذلك بغاية تضميد الجراح، وتجميع المصريين بدل تفريقهم، والتمهيد لمصالحة عادلة بينهم. أمّا التمادي في نهج الإقصاء والممارسات التمييزيّة ضدّ معتقلي الرّأي، ورفض المصارحة والمصالحة والنقد الذاتي فلن يزيد الأوضاع في مصر إلا توتّرا، ولن يخدم مصلحة الحاكم والمحكوم على السواء.
وتفيد تقارير منظمات حقوقية موثوقة، ومراكز بحثيّة وازنة، بأنّ عدد سجناء الرّأي في مصر، بعد الانقلاب، يُقدّر بنحو 65 ألفا، توزّعوا بأعداد مختلفة وفترات متفاوتة على 64 سجنا، شُيّد 19 منها بعد الإجهاز على التجربة الديمقراطيّة الوليدة سنة 2013، وكلّف إنشاؤها ميزانية الدولة مليارات الجنيهات. وتعجّ السجون المصريّة بآلاف المعتقلين على خلفيّة قضايا سياسيّة، تتّصل بالتظاهر السلمي، والتدوين، والتعبير عن الرّأي، والانضمام إلى جماعةٍ غير مرخّص فيها. وجاء في تقرير بعنوان "صرخة وطن.. متى تنتهي؟" أصدرته التنسيقيّة المصريّة للحقوق والحرّيات سنة 2017 (منظمة مصريّة ترصد واقع حقوق الإنسان في مصر بناء على شهادات وتسريبات وبيانات من داخل مصر) أنّها رصدت توقيف واحتجاز واعتقال
وفي سياق سوء المُعاملة، يُحرم سُجناء رأي في مُعتقلات مصر من مواصلة مشوارهم الدراسي، ومن تلقّي الأقلام والأوراق من الخارج، ويُمنع آخرون من الفُسحة في باحة السجن (مقدّرة بـ 30 دقيقة يوميّا)، ويحدُث أن يتمّ الاستيلاء على مُتعلّقاتهم الشخصية (مواد غذائية، أغطية، مذكّرات، رسائل..)، وكثيرا ما يجدون أنفسهم عُرضةً للشتم والتهديد والتحقير والتهكّم داخل المعْتقل وخارجه. وبحسب تقارير متواترة، لا تتوفّر مُعظم الزنازين المصريّة على أدنى الظروف الصحيّة، لضيقها، وكثرة المُعتقلين فيها، ولقلّة التهوئة وكثرة الرطوبة فيها، وندرة دخول الشمس إليها. وهو ما يجعل سُجناء الرّأي فريسة الأمراض والأوبئة. وفي هذا السياق، سجّلت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات مقتل 34 من سجناء الرّأي في المعتقلات المصرية سنة 2016 بسبب الإهمال الطبّي، فيما قضى 15 آخرون نحبهم للسبب ذاته سنة 2017.
وجاء في تقرير لمنظمة العفو الدولية (مايو/ أيّار 2018) بعنوان "سحق الإنسانية: إساءة استخدام الحبس الانفرادي في السجون المصريّة" (78 صفحة) أنّ عشرات المُحتجزين المحسوبين على المعارضة والناشطين في المجاليْن، الحقوقي والإعلامي، يُعزلون، و"يُحبَسون في سجون انفراديّة لمُدد طويلة، تصل إلى عدة سنوات، ويُمنعون من التواصل مع العالم الخارجي، ويُجبرون على البقاء في ظروفٍ مُزرية، مُريعة في زنازين ضيّقة، تنتشر بها الحشرات، وتتسرّب إليها مياه الصّرف الصحّي، ويتعرّضون أحيانا للضرب بالهراوات المطّاطية، ويُجبرون على غمر رؤوسهم في أوعية ملوّثة". وأدّى ذلك عمليّا إلى إصابتهم بعاهاتٍ بدنيةٍ وأمراض نفسيّة، من قبيل "نوبات الهلع والارتياب، وفرط الحساسيّة للمؤثّرات الخارجية بالإضافة إلى صعوباتٍ في التركيز وفي الذّاكرة". وإذا شكا هؤلاء إلى إدارة السجن أوضاعهم المُزرية، لا يجدون التجاوب المطلوب. بل قد تُضاعف عليهم العقوبة، وتشتدّ بهم النّكاية، لأنّ "حُرّاس السجن يفعلون ما يحلو لهم من دون حسيب أو رقيب"!
ولا تنتهي مُعاناة سجين الرّأي في مصر بخضوعه لمحاكمةٍ غير عادلة، أو بانتهاء مدّة محكوميّته، وخروجه من المُعتقَل، ذلك أنّه يخرج عمليّا من سجن صغير إلى سجن كبير. فيجد نفسه رهين المحبسين: المراقبة الإداريّة والمُلاحقة الأمنيّة اللّصيقة، فيُمضي سحابة يومه في مراجعة مخافر الشرطة، للتوقيع على حضوره. كما يُفصل بطريقة تعسّفية من العمل في القطاعين، الحكومي والخاصّ. ويُمنع من السّفر والنجاح في المناظرات العموميّة. ويُمعن جُلّ النّاس في تهميشه وتلافي التواصل معه. ولا تبذل السلطات المصريّة جُهدا يُذكر لإعادة إدماجه في الحياة المهنيّة والاجتماعية، على نحو يزيد من إحساسه بالعُزلة، والعطالة، والإحباط، والدونيّة، ويجعله مدار استهداف الجماعات المتشدّدة التي قد تستغلّ هشاشة وضعه النفسي والمادّي والاجتماعي، لتُطيحه في قاع التطرّف.
وبناء عليه، أن تكون سجين رأي في مصر، فيعني ذلك أن تُعاملك الأجهزة الأمنية والسلطوية
يُمكن القول، ختاما، إنّ سياسات إقصاء سجناء الرّأي، ومعاملتهم معاملة تمييزية تعزّز حالة الاحتقان داخل المجتمع المصري، وتتعارض مع الدستور المصري والمواثيق الحقوقية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تنص على حرّيات الضمير والتفكير والتعبير والتنظّم، وتمنع اعتقال النّاس بسبب أفكارهم ومعتقداتهم. واستمرار النظام العسكري في إنكار وجود سجناء رأي مع تشديد العقوبة عليهم، والإمعان في إهانتهم وتعذيبهم، لا يخدم سجلّ مصر في مجال حقوق الإنسان، ويزيد من عُزلتها في المحافل الدولية، ويعمّق الفجوة بين الحاكم والمحكوم، ويُنذر بتزايد منسوب السّخط والتطرّف في البلاد.
وبدل التمادي في سياسات الإبعاد، والاعتقال التعسّفي والمحاكمات العسكريّة، يُفترض التوجّه نحو إدماج سجناء الرّأي، والتخفيف من مُدد محكوميّتهم، والسماح لممثّلي المنظمات الحقوقية الأممية والمحلية بالوصول إليهم، والعمل على تصفير السجون المصريّة من مُعتقلي الرّأي، وتسهيل انخراطهم من جديد في الحياة المهنيّة والاجتماعيّة. وذلك بغاية تضميد الجراح، وتجميع المصريين بدل تفريقهم، والتمهيد لمصالحة عادلة بينهم. أمّا التمادي في نهج الإقصاء والممارسات التمييزيّة ضدّ معتقلي الرّأي، ورفض المصارحة والمصالحة والنقد الذاتي فلن يزيد الأوضاع في مصر إلا توتّرا، ولن يخدم مصلحة الحاكم والمحكوم على السواء.