05 يونيو 2017
أن تكون ديمقراطياً وطائفياً
مع تعثر التحول الديمقراطي بعد الربيع العربي، عادت الأسئلة التي تشغل الأوساط المهتمة بالشؤون العربية، بشأن معوقات التحول الديمقراطي عربياً، إلى الظهور بزخمٍ أكبر، في محاولة لفهم أسباب التعثر. في العادة، يُقدِّم بعض المتأثرين بالرؤية الاستشراقية العنصرية أجوبة تتمحور حول أزمة الثقافة العربية مع المفاهيم الديمقراطية، فيما ينحو آخرون إلى تحميل الأنظمة الاستبدادية والثورات المضادة مسؤولية إعاقة بناء الديمقراطية، وهذا صحيح، لكنه لا يكفي لتفسير التعثر، إذ أسهمت عوامل أخرى في الثورات المضادة، من أهمها فشل النخبة السياسية المُعارِضة للأنظمة في تقديم البديل الديمقراطي، إما لأنها لم تتشرب القيم الديمقراطية، ولم تؤمن بالتعددية، أو لأنها جنحت نحو إشعال صراع هوية ضد الأنظمة الحاكمة، أو ضد النُّخب المنافسة، بما ينسف كل محاولة لتأسيس الديمقراطية.
من هنا، يمكن ملاحظة ما تفعله الطائفية السياسية في المشرق العربي، من تقسيم المجتمعات العربية وتفتيتها، وتالياً، ضرب إمكانية التحول الديمقراطي فيها في الصميم. تقوم الديمقراطية على فكرتين أساسيتين، هما السيادة والتمثيل، فلا تُطبَّق الديمقراطية في الفراغ، وإنما تحصل في فضاءٍ يحتويها، هي مؤسسات الدولة التي تمثل وحدة جماعة سياسية، تربطها هوية موحدة، ولها السيادة على الأرض. بمعنى آخر، سيادة الشعب هي الركيزة الأساسية للديمقراطية، وهذا يعني ضرورة وجود "شعب" له هوية جامعة واضحة، وتنبثق منه مجموعة من الأحزاب السياسية التي تخوض صراعاً فيما بينها، تحت مظلة اجتماعها على الانتماء لهذا الشعب، وسعيها إلى تمثيل مصالحه، بما يعني أنها تُقدِّم برامج عمل سياسي لخدمة جميع المواطنين، وتتنافس فيما بينها لتمثيل مصالح الجماعة السياسية الوطنية (الشعب)، وليس لتمثيل مصالح جماعاتٍ متناقضة.
لا تسمح الطائفية السياسية بحصول تنافس برامج عمل سياسي وطنية، لأنها تُقسِّم الشعب إلى طوائف، وتُعيق قيام "سيادة الشعب"، وتُجَزِّئ السيادة إلى حصص، يتصارع عليها ممثلو الطوائف، ويصبح التنافس داخل كل طائفةٍ على تمثيلها في مقابل الطوائف الأخرى، والصراع بين ممثلي الطوائف صراع نفوذٍ، ينتهي إلى تعديل المحاصصة القائمة داخل الدولة، أو تفجير الدولة (الضعيفة أصلاً بفعل محاصصة الطوائف) والذهاب نحو الاحتراب الأهلي، في غياب أرضيةٍ مشتركةٍ، تسمح بتنافس ديمقراطي.
يؤكد عالم الاجتماع الأميركي، تشارلز تيللي، في مقاربته للديمقراطية، على أهمية المواطنة، بوصفها عنصراً أساسياً في بناء الديمقراطية، ويرفض تكوين علاقة بين الفرد والدولة، بالاستناد إلى عضوية الفرد في مجموعات وطبقات خاصة. وفي حالة الطائفية السياسية، يُضرب مبدأ المواطنة بوضوح، وتنشأ علاقة الأفراد بالدولة عن طريق طوائفهم، وعلى أساسها تُحَدَّد حقوقهم. في الحالة الطائفية، لا تنشأ تعددية حزبية، بل تعددية جماعات طائفية، فوق المواطنة، بما يُفقد المواطنة معناها، كما يفقد التنافس الديمقراطي معناه.
العراق نموذج مهم لحالة ديمقراطية مشوهة، أنهى فيها الاحتلال الدولة ومؤسساتها، وأصبح المجتمع عارياً من كل رابطة، فتحلل، وعاد أفراده إلى جماعاتهم الأولية، في ظل وجود نخبة سياسيةٍ تقبل التعاطي مع المحتل، وتسليم السيادة له، وتتقاسم الحصص فيما بينها على أسس طائفية، والحديث هنا عن جميع الأحزاب التي قبلت معادلة بول بريمر الطائفية، بكل ألوانها المذهبية. أُعيد في العراق تعريف الأكثرية، لتكون أكثرية طائفية، في مقابل أقلية طائفية، بدلاً من أغلبية سياسية قائمة على أساس برنامج عمل يُطرح لجميع المواطنين، وقد شهدنا في الحالة العراقية، بفضل الحُكم القائم منذ عام 2003، تحويل صندوق الاقتراع إلى أداة من أدوات صراع النفوذ بين الطوائف، بما يلغي قيمته في تحقيق التمثيل الديمقراطي، ويحوّله إلى مجرد مُنَظِّم لتوزيع الحصص بين الطوائف.
في حالة العراق، شارك رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، مع حزبه في الانتخابات، وفاز فيها. لكن، لا يمكن القول إن هذا يكفي لصناعة ديمقراطية، إذ يقوّض تقديم المالكي وحزبه هويتهم الطائفية في العملية السياسية الديمقراطية، حيث لا سيادة شعبية ولا مواطنة حقيقية، وهو ما يفعله أيضاً، على الطرف المقابل، طارق الهاشمي وحزبه.
التجربة العراقية شاهد على عدم إمكانية بناء الطائفيين الديمقراطية، وإن رفعوا شعاراتها، وتوسلوا أدواتها، مثل الانتخابات والبرلمان، وهذا ينطبق، أيضاً، على تقييم كل من يرفع شعارات الديمقراطية، ويقدم هوية طائفية تُقَسِّم المجتمعات، ولا يعترض على التجربة العراقية في مبدئها المُحاصَصِي، وإنما في نتيجتها الممثلة بهيمنة طائفةٍ على أخرى، مثل من يرفعون شعار مناهضة استبداد النظام السوري، ويتحالفون، في الوقت عينه، مع قوى غير ديمقراطية من المنظمات الجهادية الإجرامية، فهؤلاء ترتبط شعارات العدالة والحرية عندهم بمقاساتٍ طائفية، وتدفعهم عقلية الثأر والانتقام إلى السعي إلى تدمير المجتمع والدولة، ما يعني تدمير أي حاضنةٍ، يمكنها احتواء العمل الديمقراطي.
يحتاج التأسيس للديمقراطية إلى ديمقراطيين وطنيين، ينظرون إلى مصلحة أوطانهم، لا مصلحة طوائفهم، ويمكنهم تعريف الجماعة السياسية التي يحصل داخلها التنافس الديمقراطي، على أسس وطنية، ولا تسيطر عليهم عقلية الثأر، فتدفعهم إلى صب الزيت على نيران الحروب الأهلية، التي هي عدو رئيس لكل تحول ديمقراطي. الطائفيون خصوم الوحدة الوطنية داخل مجتمعاتنا. وعليه، هم خصومٌ للتحول الديمقراطي بالضرورة، وإن تغنّوا بشعاراتٍ ديمقراطية.
من هنا، يمكن ملاحظة ما تفعله الطائفية السياسية في المشرق العربي، من تقسيم المجتمعات العربية وتفتيتها، وتالياً، ضرب إمكانية التحول الديمقراطي فيها في الصميم. تقوم الديمقراطية على فكرتين أساسيتين، هما السيادة والتمثيل، فلا تُطبَّق الديمقراطية في الفراغ، وإنما تحصل في فضاءٍ يحتويها، هي مؤسسات الدولة التي تمثل وحدة جماعة سياسية، تربطها هوية موحدة، ولها السيادة على الأرض. بمعنى آخر، سيادة الشعب هي الركيزة الأساسية للديمقراطية، وهذا يعني ضرورة وجود "شعب" له هوية جامعة واضحة، وتنبثق منه مجموعة من الأحزاب السياسية التي تخوض صراعاً فيما بينها، تحت مظلة اجتماعها على الانتماء لهذا الشعب، وسعيها إلى تمثيل مصالحه، بما يعني أنها تُقدِّم برامج عمل سياسي لخدمة جميع المواطنين، وتتنافس فيما بينها لتمثيل مصالح الجماعة السياسية الوطنية (الشعب)، وليس لتمثيل مصالح جماعاتٍ متناقضة.
لا تسمح الطائفية السياسية بحصول تنافس برامج عمل سياسي وطنية، لأنها تُقسِّم الشعب إلى طوائف، وتُعيق قيام "سيادة الشعب"، وتُجَزِّئ السيادة إلى حصص، يتصارع عليها ممثلو الطوائف، ويصبح التنافس داخل كل طائفةٍ على تمثيلها في مقابل الطوائف الأخرى، والصراع بين ممثلي الطوائف صراع نفوذٍ، ينتهي إلى تعديل المحاصصة القائمة داخل الدولة، أو تفجير الدولة (الضعيفة أصلاً بفعل محاصصة الطوائف) والذهاب نحو الاحتراب الأهلي، في غياب أرضيةٍ مشتركةٍ، تسمح بتنافس ديمقراطي.
يؤكد عالم الاجتماع الأميركي، تشارلز تيللي، في مقاربته للديمقراطية، على أهمية المواطنة، بوصفها عنصراً أساسياً في بناء الديمقراطية، ويرفض تكوين علاقة بين الفرد والدولة، بالاستناد إلى عضوية الفرد في مجموعات وطبقات خاصة. وفي حالة الطائفية السياسية، يُضرب مبدأ المواطنة بوضوح، وتنشأ علاقة الأفراد بالدولة عن طريق طوائفهم، وعلى أساسها تُحَدَّد حقوقهم. في الحالة الطائفية، لا تنشأ تعددية حزبية، بل تعددية جماعات طائفية، فوق المواطنة، بما يُفقد المواطنة معناها، كما يفقد التنافس الديمقراطي معناه.
العراق نموذج مهم لحالة ديمقراطية مشوهة، أنهى فيها الاحتلال الدولة ومؤسساتها، وأصبح المجتمع عارياً من كل رابطة، فتحلل، وعاد أفراده إلى جماعاتهم الأولية، في ظل وجود نخبة سياسيةٍ تقبل التعاطي مع المحتل، وتسليم السيادة له، وتتقاسم الحصص فيما بينها على أسس طائفية، والحديث هنا عن جميع الأحزاب التي قبلت معادلة بول بريمر الطائفية، بكل ألوانها المذهبية. أُعيد في العراق تعريف الأكثرية، لتكون أكثرية طائفية، في مقابل أقلية طائفية، بدلاً من أغلبية سياسية قائمة على أساس برنامج عمل يُطرح لجميع المواطنين، وقد شهدنا في الحالة العراقية، بفضل الحُكم القائم منذ عام 2003، تحويل صندوق الاقتراع إلى أداة من أدوات صراع النفوذ بين الطوائف، بما يلغي قيمته في تحقيق التمثيل الديمقراطي، ويحوّله إلى مجرد مُنَظِّم لتوزيع الحصص بين الطوائف.
في حالة العراق، شارك رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، مع حزبه في الانتخابات، وفاز فيها. لكن، لا يمكن القول إن هذا يكفي لصناعة ديمقراطية، إذ يقوّض تقديم المالكي وحزبه هويتهم الطائفية في العملية السياسية الديمقراطية، حيث لا سيادة شعبية ولا مواطنة حقيقية، وهو ما يفعله أيضاً، على الطرف المقابل، طارق الهاشمي وحزبه.
التجربة العراقية شاهد على عدم إمكانية بناء الطائفيين الديمقراطية، وإن رفعوا شعاراتها، وتوسلوا أدواتها، مثل الانتخابات والبرلمان، وهذا ينطبق، أيضاً، على تقييم كل من يرفع شعارات الديمقراطية، ويقدم هوية طائفية تُقَسِّم المجتمعات، ولا يعترض على التجربة العراقية في مبدئها المُحاصَصِي، وإنما في نتيجتها الممثلة بهيمنة طائفةٍ على أخرى، مثل من يرفعون شعار مناهضة استبداد النظام السوري، ويتحالفون، في الوقت عينه، مع قوى غير ديمقراطية من المنظمات الجهادية الإجرامية، فهؤلاء ترتبط شعارات العدالة والحرية عندهم بمقاساتٍ طائفية، وتدفعهم عقلية الثأر والانتقام إلى السعي إلى تدمير المجتمع والدولة، ما يعني تدمير أي حاضنةٍ، يمكنها احتواء العمل الديمقراطي.
يحتاج التأسيس للديمقراطية إلى ديمقراطيين وطنيين، ينظرون إلى مصلحة أوطانهم، لا مصلحة طوائفهم، ويمكنهم تعريف الجماعة السياسية التي يحصل داخلها التنافس الديمقراطي، على أسس وطنية، ولا تسيطر عليهم عقلية الثأر، فتدفعهم إلى صب الزيت على نيران الحروب الأهلية، التي هي عدو رئيس لكل تحول ديمقراطي. الطائفيون خصوم الوحدة الوطنية داخل مجتمعاتنا. وعليه، هم خصومٌ للتحول الديمقراطي بالضرورة، وإن تغنّوا بشعاراتٍ ديمقراطية.