أن تقابلي إيتيل عدنان

15 ديسمبر 2014
تصوير: أنجيلكيا ساغار
+ الخط -
خلال الثلاثة أعوام التي عشتها في باريس، سمعت اسم إيتيل عدنان يتردد كثيراً. قيل لي: إنها عربية أميركية، أنت عربية أميركية، كيف لا تعرفينها؟

نعرف عدنان، اللبنانية الأميركية ذات الثقافة المهجنة، بشِعرها ونثرها وكذلك أعمالها الفنية، فهي واحدة من رواد الفن العربي المعاصر. إنها تقريباً في التسعين، بعمر جدتي، وما زالت ترسم وتكتب. منحتها الحكومة الفرنسية هذا العام "وسام الفارس للفنون والآداب"، أحد أرفع أوسمتها.

أخيراً جاء اليوم الذي سألتقيها فيه، ولكن لم يكن لي فيه فضل؛ حدث ذلك في أواخر الربيع الماضي، حين طلب مني صديقي في نيويورك أن أعرّج على شقة عدنان في باريس لأحضر له لوحاتها. "إنها في انتظاركِ"، قال جمال. كانت اللوحات لمزاد سنوي لتمويل صالة للفنون في نيويورك، وقد تبرعت عدنان باثنتين من لوحاتها؛ الأولى بالألوان المائية وقريبة من مزاج سيزان، والأخرى بالأسود اللامع من الإكريليك، وقد عنونت كلتاهما بـ"جبل".

ما أن وصلت إلى شقة عدنان خلف حديقة لوكسبمورغ بالضبط، بدأت أشعر بالقلق من زيارتي. ولكن ما أن رحبت بي سيمون فاتال، صديقة عمر إيتيل، وبدأت مجاملاتنا تنتقل من الفرنسية إلى العربية، حتى ملكت لهجتي واختفى قلقي.

"أنت فلسطينية؟" سألتْ إيتيل، وهي تعرف الجواب مسبقاً.

في الحقيقة، ليس صعباً تمييز لهجتي، رغم ما قيل لي في كثير من الأحيان من أن لهجتي قريبة من التونسية: إنه لُبسٌ سببه طريقتي في الجمع ما بين لهجة أمي المقدسية وطريقة إخوتي الغزيّة في الكلام. بعد أن تلاشى ارتباكي، تحدثنا وتحدثنا كما لو أنني أتكلم مع جارة. فوجئت بفضول عدنان نحوي، في حين اعتقدت أن الأمر لا بد أن يكون العكس. الإصغاء هو أمر أتقنه، وهي صفة ليست متاحة لكثيرين، لكنني اكتشفت أنني كنت أتكلم أكثر، وأن إيتيل هي من كانت تصغي. سألتني عن حياتي، وحين أخبرتها عن هيوستن، بدأت تخبرني الحكايات عن الوقت الذي عاشته في تكساس.

حين سألتني عن عملي، أخبرتها أنني أكتب، أكسب عيشي من الصحافة تقريباً، ولكني كنت أحاول كتابة رواية، وهنا أخبرتني أن آخذ كتبها معي. حتى أنها قدمت لي واحدة من سكتشاتها، الهدية التي رفضتها بأدب.

ليسوا كثراً مَن تتاح لهم فرصة مقابلتها هذه الأيام. ربما لأنه بات من الصعب عليها أن تسافر، أو أنها نادراً ما تتواصل مع أحد "أونلاين". وفي الوقت الذي غادرت فيه شقتها، بعد حديث من القلب في غرفة الجلوس المشمسة، حظيت بحقيبة مليئة بالكتب، وشعور، أحسست به في معدتي، أنني قابلت للتو واحدة من أكثر الناس لطفاً وإثارة للاهتمام.

وبينما هي تودعني بقبلة، قالت "اكتبي لي إن احتجت أي شيء. تعرفين عنواني".

قبل أن أغادر باريس إلى نيويورك، قررت أنني سأبدأ مراسلتها، برسالة عن كل كتاب أقرأه. لقد مرّ وقت طويل منذ أن أثّر بي كتاب إلى هذا الحد، وفي هذه الحالة، كُتُب.

ثمة شيء مؤثر وحاد في طريقة تناول عدنان للمدن، بالنسبة إلى كاتبة عُرّف عملها وفقاً للمدن، لكني أيضاً أرتبط بعدنان النسوية العربية، كوني نشأت في بيت مليء بالنساء، وعلى نحو خاص أنني سافرت ووثقتُ بحثاً عن أشخاص يعيشون في ماضيّ. مثلما ذهبت عدنان إلى اليونان بحثاً عن صوت والدتها، أنا أيضاً، سافرت إلى فلسطين بحثاً عمّا تبقى من ماضي أمّي وجدّتي.

في "عن النساء والمدن"، كتاب المراسلات المصورة، الذي يضمّ رسائل عدنان إلى الباحث اللبناني فواز طرابلسي، وجدت نفسي مستغرقة في نص يمكن له أن يكون انعكاساً كبيراً ليومياتي الشخصية عن أسفاري. كان الكتاب استجابة لطلب طرابلسي أن تكتب مقالاً عن النسوية لمجلة "زوايا". وبما أنها سافرت من مدينة إلى أخرى عبر المتوسط: برشلونة، البروفانس (جنوب فرنسا)، سكوبيلوس وبيروت، وجدت عدنان نفسها تتأمل في المسألة النسوية:

"أمشي في شوارع هذه البلدة، وأكتب لك رسالة في ذهني، بينما يدور خطاب آخر في عقلي... النساء، حينما يكنّ في الشوارع، لا يبدو أنهن يلعبن دوراً واعياً، أو يعشن استثناء: إنهن جزء من إنسانية، من مكان ما، من مناخ، من بلد. يذكرنني أنه من الممتع حقاً أن تكون حياً، أن تكون إنساناً، وأن تكون جزءاً من لحظة محددة في الزمان والمكان، حتى أن النظريات تضيع حين تواجه بتجربة ثرية".

"لهذا تخلّيت عن فكرة كتابة رسالة رسمية إليك عن "النسوية" وبدأت في كتابة ما يخطر لي".

الكثير مما تكتبه عدنان هو تأملات وجودية حول حالة عدم الانتماء إلى دولة (Statelessness)، أياً كانت المدينة. الحنين ليس شيئاً تجده في صفحاتها، لكن ما نراه فعلاً هو صعوبة العيش كـ"بنات غربة" (daughters of dépaysement)، أو كأطفال لآباء منفيين إثر الحرب. ومثل كثير من نصوصها الأخرى حول كوابيس الحرب مثل "يوم القيامة العربي" أو "ست ماري روز"، تنسج عدنان وتسجل إدراكها لماضٍ ثقيل من خلال رسائلها إلى طرابلسي.

وهي تفعل ذلك بصدق يصعب الارتقاء إليه صراحةً. في البيت الذي نشأتُ فيه، تظل النساء بالقرب من أهلهن. وفي عائلتي، لم يتم تغيير الأدوار ولم تتجول النساء في شوارع مدن أخرى. حتى اليوم، في المدينة التي أعيش فيها الآن، ما زالت أمي تتصل وتسأل: "متى ستعودين إلى البيت؟".

ربما لهذا السبب عندما تتحدث عدنان عن ذلّ المدينة أو عنف القومية، أو عنف البحث عن التحرر مثلما تفعل النساء عادة، أجد نفسي صدى لجدالها مع طرابلسي: "نحن لا نعرف تماماً ماذا نعني بالحرية".

هذه هي اللحظة التي أعتقد فيها أن إيتيل عدنان تلقننا جميعاً درساً قيماً: الكثير من عراكنا اليوم يدور حول إعادة تعريف المساحات من حولنا، ليس فقط الملاحظة والتأمل، بل وأخذ طرف في مواجهات على نطاق ضخم من العواطف. وفي معظم الوقت، يحدث ذلك لنتذكر أننا قبل أن نكون نساء، نحن بشر.

واحدة من الرسائل التي كتبتها إليها بينما أنا في اليونان أزور أصدقاء، كانت تدور بشكل أساسي حول سؤال ظل يلح عليّ منذ زيارتي الأولى إلى اليونان التي أسميها الآن "فلسطيني الثانية". بالنسبة إلي، رأيت، بعد زيارة بحر اليونان وريفها، فيهما شيئاً من فلسطين المحررة التي أتخيلها. كتبت لعدنان من أثينا على ظهر بطاقة بريدية، لا أعرف إن كانت وصلتها: "هل من الممكن لبحثنا أن يتجاوز المخيلة؟"

ولكن قبل أن أتابع معها، بدأت الحرب في غزة وانصرف كل تفكيري إلى مدينة أخرى، إلى مكان يملؤه شيء أكثر قتامة وإلحاحاً من متابعة رغباتنا الإنسانية.



* عن العربي الجديد الموقع الإنجليزي 

ترجمة: نوال العلي

المساهمون