أن تجلب اللغة من الطرف الآخر

07 ابريل 2015
في تركيا وجدت تجربتي اللغوية مختلفة (Getty)
+ الخط -
لم أزر أي بلد عربي لأكثر من ثماني سنوات، وحين ذهبت إلى بيروت، أُصبت بفرح غريب. أن أسمع اللغة العربية في الشارع، أن تتسرّب الأغاني العربية إلى روحي. أثرثر مع صاحبة المطعم في شارع الحمرا، ونتبادل الذكريات حول عائلتها في حلب، فأشعر كأنني داخل حلم يقظة، صنعته لنفسي مراراً، بل تركته خلفي ذات يوم، حين كان كل العالم هناك، يتحدثون اللغة ذاتها.. كنت أحسّ بحريّة مباغتة، وكأنني في حالة العيد، لما يحمله العيد من كسر للتقليد.
لم أكن منتبهة إلى حجم البؤس اللغوي الذي حييته ، وأنا أترجم ما أفكر به، فأخترع في اللغة الفرنسية مصطلحات غير موجودة، تثير ضحك الأصدقاء وعائلتي الفرنسية الجديدة. لكن السعادة في بلد يتحدث العربية، كشفت لي كمية بؤسي.

مع الأيام، تجددت متعي اللغوية، وأنا أتنقّل في بلاد عربية لم أزرها من قبل. فاللغة التي أكتب بها وأفكّر بها تزيد ارتباطي واندماجي بتلك البلاد وشعوبها.
في مصر، عشت كأنني داخل رواية لنجيب محفوظ، أو كأنني أتماهى مع السينما، لأمارس المزيد من البهجة اللغوية، فأتحدث مع المصريين بالمصرية التي نكاد نكون رضعناها من السينما والتلفزيون، كما لو أنني أستجمّ في بلد يحقق لي سعادة مختلفة، لكنه ليس استجمام البحر والشمس والمتنزهات، بل استجمام اللغة.

البلد الجديد عليّ تماماً، والذي لم أتخيل أنني سأمضي فيه أوقاتاً طويلة، تتجاوز الحالة السياحية، هو تركيا، كونها صارت البلد البديل للسوريين، إذ وجدت تجربتي اللغوية مختلفة.
ولأنني أتحدث الكردية، المنتشرة بشكل واسع، لم أشعر بالاغتراب، ووفق خبرتي، أكثر من ثلاثة أرباع الأماكن التي دخلتها: ثمة من يتحدث الكردية فيها.
صرت أتحدث الكردية ما أن أدخل أي مكان جديد: هل ثمة أحد هنا يتحدث الكردية؟ يحضر فوراً المتقن للكردية، أو يتم البحث واستدعاء الشخص المطلوب، لتلبية طلباتنا... والمعروف عن الأتراك، علاقتهم غير الجيدة مع الجانب السياحي، وافتقارهم إلى خبرات التعامل مع الأجانب، والتحدث باللغة الإنجليزية حتى، خصوصاً خارج العاصمة...

في وسائل النقل، اعتدت التحدث بالكردية، وبغتة أحسست برغبة نابعة من الحسّ اللغوي ومتعة انتشار اللغة، لا تمت بصلة إلى القوميات وتأسيس الدول، قلت لنفسي: لماذا لا يكون هناك دولة كردية، نتحدث فيها جميعا هذه اللغة؟ سيكون الأمر سهلاً، كما نتحدث العربية في البلاد العربية، أو الفرنسية في فرنسا وبلجيكا، أو الإنجليزية في هولندا وألمانيا... حيث انتشار هذه اللغات، في بلاد ليست تلك اللغات هي لغتها الأولى!
إذا كنتُ بعد أكثر من عشر سنوات أعيش خارج اللغة العربية المتداولة يومياً، وإن لازلت على احتكاك دائم بها، عبر كتابتي وصداقاتي مع عرب داخل فرنسا أو أصدقائي في البلاد العربية، فإنني لا أزال أشعر بالاسترخاء وما يشبه الأمان داخل اللغة العربية، أو الارتياح ذاته، وما يشبه الاستجمام اللغوي، داخل اللغة الكردية، كما أحسستُ في تركيا، فما هو مصير المهاجرين السوريين الجدد إلى البلاد التي تنتظرهم فيها الغربة بكل تفاصيلها: الطقس ـ العادات ـ السلوك اليومي، واللغة!

ستأتي التغريبة اللغوية، وتشكّل كآبة مُضافة إلى الكآبة السورية..أن تترجم نفسك وأفكارك ورغباتك، لتصل إلى الآخر...اغتراب بذل الجهد في العثور على الكلمات المرادفة، تلك التي كثيراً ما تصبح مستحيلة التواجد في بيئة لم نُخلق فيها.
هناك اغتراب لغوي بمثابة جسر يربط بين البلد، سورية، والمغترب الأوسع، وهو المغترب التركي. كما لو أن تركيا، محطة الانتقال الأوسع للسوريين الذاهبين إلى الغرب، وهي البلد الوحيد الذي لا يتحدث العربية، يأتيه السوري ، غالباً كمحطة مؤقتة.

تركيا هي الجسر الواصل بين الاستجمام اللغوي، أي متعة اللغة التلقائية في البلد الأصل، والمغترب التالي، وهي مغترب أيضاً، لكنه أقل غربة من الغرب، بسبب عادات الأتراك القريبة للعادات العربية، وربما كانت الدراما التركية المدبلجة، جسراً صغيراً لكسر الغربة.
التغريبة السورية تنتظرعلى تخوم اللغات الجديدة.التغريبة اللغوية هي الإحساس المُعاكس للاستجمام اللغوي، حيث الفرق، بين أن تكون اللغة في حضنك، كأنك في بيتك، وبين أن تنهض لجلبها من الطرف الآخر.
المساهمون