في روائيّه الطويل "مُكَيّف هواء" (2020)، يُجرِّب المخرج الأنغولي فراديك (1986) أنماطاً سردية صادمة، فيها جرأة كبيرة على أنساق سرد تقليدية، قلّة من السينمائيين، وخصوصاً في سينمات العالم الثالث، تُغامِر بالركون إليها كوسيطٍ تعبيريّ قادر على نقل "حالة" ملتبسة، تتجاوز حدود "القصّ" العادي، إلى مستوى الهذيان والتشظّي.
في عمق باكورته الروائية الطويلة، المعروضة في مسابقة "مستقبل وضّاء" في الدورة الـ49 (22 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي"، هناك مواءَمة داخلية بين الأشكال التعبيرية، الخارجة عن السياقات التقليدية، وتعقيدات أحوال "لواندا"، المدينة الأنغولية المستسلمة لحالة سكون غامضة، والمُصدِّقة لأشدّ الأحداث والظواهر غرابة وسوريالية، كالسقوط المتكرّر لمُكَيّفات الهواء من أسطح بناياتها وجدرانها على رؤوس المارّين في شوارعها.
تتناقل وسائل الإعلام خبر سقوطها وموت بعض سكّان العاصمة بسببها. صُوَر شاحبة لأحياءٍ في المدينة يلتقطها الفوتوغرافي كافوكسي. حالة العاصمة، الغارقة في قيظٍ صيفيّ، وحركة ماتَسيدو (خوسيه كيتَكولو) ـ حارس إحدى عماراتها السكنية ـ ساهماً يمشي وسط شوارعها، تلتقطهما عدسات المصوّر أَري كلافير، بالإيقاع نفسه الذي يسير به. المشهد العام للمدينة مغلّف بموسيقى (أليني فرازو) مُعبِّرة عن دواخلها. الجاز فيها يُضفي إحساساً مُضاعَفاً بأصالة ارتباط بين العاصمة (الملتقطة حالتها سينمائياً في لحظة غير محدّدة زمنياً) وموروثاتها الثقافية وتاريخها السياسي القريب.
حزنُ إيقاعاتها يشي بوضعٍ بشريّ مأزوم، يُصرَّح عنه أحياناً بأصوات صراخ وعويل تخرج من غرف ضيّقة مظلمة، وأحياناً أخرى يصل إلى المتفرّج عبر أسلوب التخاطر الداخلي، مع استبدالٍ مُستَحدَثٍ لأصوات المتحدّثين بعبارات مكتوبة، تظهر على الشاشة كأنّها ترجمة أكثر منها نقلاً لما يريدون البوح به. في مرّات، يُكتفى بجُمل قصيرة مبهمة، يتبادلها الحارس مع صديقته زيزينها (فيلومينا مانويلا)، العاملة في مكتب صاحب البناية. في إحداها، تقفز عبارة تشير إلى مشاركته السابقة في الحرب الأهلية، التي دامت أعواماً، وهيّأت البلد لتدخّلات من كل صوب، تكاملت مع موروث استعماري برتغالي لئيم لتحطيمه.
من ثنايا الهذيان والتشتّت البصري والصوتي، ينسج فراديك (يكتب اسمه أحياناً ماريو باستوس) نصّه التأمّلي، مستوحياً أسلوب كتابته من أدب "الواقعية السحرية". يستعيد فيه علاقة غامضة بين سكّان المدينة وماضيها المشحون بأوجاعٍ تغلغلت إلى الأعماق. انشغاله بتلك العلاقة يظهر في وثائقيّه "استقلال" (2015)، وقبلها في فيلمه القصير "المصباح" (2010)، الذي نبّه باكراً إلى موهبة واعدة، تعلّمت الحِرفة السينمائية جيداً.
فيه، يُجسّد رؤيته لبلده في مرحلة ما بعد الاستقلال. نظرة نقدية حادّة تخلّلت حكاية الخطيب الذي قدَّم هدايا خطبته إلى والد فتاة أحبّها، واتفقا على تمضية حياتهما معاً. على حادث دهس سيارته لطفلٍ قرب بيتها، بنى تصوّراته لأنغولا حينها: جشعٌ وفساد حكومي وقلّة حمية مجتمعية. ظلّ الطفل المدهوس مرمياً على الأرض ينزف، بينما كان والد الفتاة مشغولاً بسرقة هدايا الخطيب. أرادت الشرطة مُصادرة سيارته لأخذ ما بقي فيها، بينما كان سلوك الجمهرة يزداد عنفاً وعدوانية ضد السائق. تعابير العنف الكامن داخل الأنغوليّ صادمة ومُكثّفة في نصّ، ابتعد عن الربط المباشر بين الحرب الأهلية وتأثيراتها على نفوس من عاشها. أبقى ذلك للمتفرّج ليُحلّله وفق تصوّراته وفهمه.
تحليله المعمَّق للعلاقات التاريخية والسياسية المتشابكة في بلده ظهر في "استقلال". اشتغاله على توثيق فصول من تاريخ أنغولا سينمائياً مدعاة للإعجاب. قدرته على استثمار كلّ أساليب السرد السينمائي لافتة للانتباه. لتقديم بانوراما تاريخية تمتدّ على مراحل طويلة، استعان فراديك بالرسوم المتحرّكة والفوتوغرافيا، وبعض المتوافر من خامات فيلمية (أرشيف) جمعها في شريط واحد، ورتّبها وفق تسلسل الأحداث، ثم خرج بنتيجة مقلقة: ما صنعه الاحتلال البرتغالي سيّئ وبشع، إلا أنّ الحروب الأهلية وتصارع التنظيمات المسلّحة ـ المناضلة لطرده ـ بين بعضها وبعض، أحدثت شرخاً عميقاً في جسد أنغولا، ومزّقت دواخل أهلها.
نتيجة هذا ظاهرةٌ في "مُكيّف هواء"، ومنعكسة على حارس البناية وصديقته، وعلى مديرها الذي طالبها بإصلاح المُكيّف المعطّل في مكتبه، وإلا فسيطردها. يقودهما هذا إلى مصلّح كهربائي غريب الأطوار (ديفيد كاراكول)، يكشف لهما عن مسعاه الخفيّ إلى جمع كلّ ما يدلّ على وجود تآزر وتضامن، غائبَين اليوم. يعرفان عنده أسباب خفّتهما وضعف انشدادهما نحو المكان. يجدان عنده تفسيراً لمرور مُكيّفات هوائهم بحالة "انعدام الجاذبية"، فيُسلّمان له أمرهما، ويمضيان معه في عبثه وجنونه.
الإقدام على تجسيد حالة وجودية شديدة التعقيد، بأسلوب الواقعية السحرية، مردّه ثقة فراديك بموهبته وعمق رؤيته لواقعه، ولعوامل مساعدة أخرى، كالموسيقى الساحرة، والأداء التمثيلي المتفهّم لمحاولة تجريب أساليب سينمائية للتعبير، تتجاوز التقليديّ من دون خوف.