أنطونينو بيليتيري: صقلية.. ضفّتان لتاريخ واحد

18 نوفمبر 2018
(من مدينة باليرمو، تصوير: لايسا تايلر)
+ الخط -

إذا كانت الأندلس قد حظيت بمدوّنة كبيرة، توزّعت بين الكتابات التاريخية والتخييل الأدبي، فإن جزيرة صقلية وإن عرفت، مثلَ شبه الجزيرة الإيبيرية، حضوراً عربياً، فإنها لم تحظ بنصيب مماثل على مستوى الكتابة.

منذ سنوات، يشتغل المؤرّخ والمستعرب الإيطالي أنطونينو بيليتيري (1973) على إضاءة هذا التاريخ اعتماداً على مراجع من مصادر مختلفة. بين أيام 13 و15 من الشهر الجاري، ألقى بيليتيري ثلاث محاضرات في "جامعة لورين" بمدينة نانسي الفرنسية، تحدّث فيها بلغات ثلاث (الفرنسية والعربية والإيطالية) عن تاريخ صقلية في عصور الحكم العربي وصورتها (أو بالأحرى صورها) في كتب التاريخ.

انطلق بيليتيري من ملاحظة تتعلّق بشبه إنكارٍ للمرور العربي بصقلية في الكتابات التاريخية الإيطالية الأكثر تداولاً، مشيراً إلى أن المرحلة العربية تُدمَج غالباً مع المرحلة النورماندية. يعود هنا إلى العمل الأشهر حول تاريخ صقلية للمؤرّخ الإيطالي ميكيلي أماري (1806 - 1889)، حيث يشير المحاضر إلى وجود نقائص عدّة فيه، لكونه كُتب في منتصف القرن التاسع عشر من منظور قومي، على اعتبار أن إيطاليا كانت تعيش مخاض وحدتها. لاحقاً، وكما يشير بيليتيري، عمل الفاشيون على محو كل أثر للاعتراف بدور عربي في الكتابة التاريخية عن صقلية.

بشكل عام، يؤكّد المؤرّخ الإيطالي أن إنكار الأثر الإسلامي في صقلية ليس استثناءً، فالأمر سيّان مع الأثر البيزنطي، مستنتجاً، في هذا السياق، أن الكتابة التاريخية كانت تحاول إنكار كل ما هو شرقي من أجل مشروع "هوية صافية" للإيطاليين.

خلال المحاضرتين اللاحقتين، اعتمد بيريتيلي أكثر على النصوص التاريخية العربية. ومن خلال سرد تاريخ صقلية، كان يضيء حقبات من التاريخ الإسلامي، فقد كانت الجزيرة المتوسّطية شاهدةً على صراع الخلافة بين العبّاسيين والفاطميين، حيث فُتحت في عهد الأغالبة المرتبطين ببغداد، ثم حين خضع الغرب الإسلامي إلى الدعوة الفاطمية كانت صقلية جزءاً من التركة. وباستقرائه لدور الفاطميين في صقلية، يعتبر بيليتيري أنهم ليسوا، كما يُشاع، متّجهين بالكامل إلى الشرق وحده، بل كانت لديهم رؤية بَحرية توسّعية نحو الشمال.

من خلال عرض عدد من الوثائق، حاول بيليتيري أن يبيّن ما الذي كانت تعنيه صقلية للعرب، فتسميات مثل "الجليلة" و"العامرة" لمدن وأحياء في صقلية يشير إلى مكانة خاصة. كما أشار إلى كون كلمة صقلية ليست من أصول عربية، لكن العرب وجدوا فيها جذور فعل "صقَلَ" بما في ذلك من استعارة لفكرة السيف والقوّة والتمدّد. من جانب آخر، وخلال قراءته لكتابات تاريخية عربية، يؤكّد بيليتيري أن المؤرّخين لم يستعملوا قطّ مصطلحات التقسيم: دار الحرب/ دار الإسلام، معتبراً أن ذلك استعمالٌ اصطنعه الفقهاء.

في المحاضرة الأخيرة، عاد بيليتيري إلى مسألة الكتابة التاريخية عن صقلية معدّداً أعمالاً لمؤرّخين مسلمين معاصرين تناولت الجزيرة، مثل ما وضعه المؤرّخ الباكستاني عزيز أحمد بالإنكليزية، والعراقي عبد العزيز الدوري، والتونسيّان محمد الطالبي ضمن دراسته عن الدولة الأغلبية، وفرحات الدشراوي عن الدولة الفاطمية. يعتبر بيليتيري أن الكتابة العربية عن صقلية تبدو هي الأخرى منقوصةً مثل الكتابات الإيطالية عنها، حيث تُضاء عادةً ضمن مباحث أوسع.

أخيراً، يُشير المؤرّخ الإيطالي إلى شعوره بأن تاريخ الجزيرة لم يكتب بعد، مؤكّداً: "حين نريد كتابة هذا التاريخ، يُفترض أن يكون ذلك بالتعاون؛ حيث تتكامل الروايات الأوروبية والعربية حوله". يضيف أنطونينو بيليتيري أن التعدّد الثقافي في كتابة هذا التاريخ ينبغي أن يصاحبه تعدّد معرفي، إذ يقول "لا يكفي المؤرّخون وحدهم... أعتقد أن مساهمة المشتغلين في مجال الإسلاميات اليوم ضرورية، وبشكل أساسي المتخصّصون في التشيّع، وغير ذلك من الميادين العلمية".

دلالات
المساهمون