أنسنة الحياة العربية في مواجهة التوحش

23 نوفمبر 2014

كويتيات يتظاهرن دعماً لثورة الشعب السوري (26مايو/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

كأنما هو ارتداد إلى عصور الظلام والغرق في أوهام الغيب وأحلام اليقظة. هنا، والآن، وعندنا العربي، تتمثل الأنظمة دور الإكليروس المسيحي المتحجر في القرون الوسطى، بينما الحركة المضادة، في لبوسها الأصولي المتطرف، تحاكي ذلك الإكليروس، جموداً وانغلاقاً وانفلاتاً على الناس، وإغلاق العقل وإفلات الأيدي والسكاكين وألسنة التأثيم!
يزعم كلٌ من طرفي السجال والصراع أنه ضمانة السعادة والعدالة والتقدم والاستقرار. لكن كليهما ينطويان على رزايا كفيلة بإدامة التخلف والعوز والعذاب، ذلك لأن المجتمع هو صاحب الدور المعطل. فلا يُرجى خير من مستبدين فاسدين، ولا من التيارات التي تصادر الإيمان، وتنصّب نفسها وصيةً على الدين. الأولون يجترحون مشروعيتهم من الدين نفسه، ويصدق فيها قوله تعالى "أم حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أن تجعلهم كالذين آمنوا". أما الأخيرون، فإنهم يؤسسون للبغضاء، باسم دين سَمِح!
نطمح إلى حركة أنسنة، تتولى فيها الطبقة الوسطى النهوض بتحولات تاريخية، تبدأ بأفكار العقل المستنير التي تُعلي من شأن الحرية والانفتاح على الآفاق، والتأسيس لعملية تنظيم الفضاء السياسي والاقتصادي، وتحرير ممكنات الإنسان، لا إحباطها وسجنها!
في عالم الشهود الذي هو عالم الدنيا، نشأت حركات الأنسنة التي أوصلت أمماً إلى التقدم والسلام الاجتماعي والحرية ودولة القانون. كانت تلك الحركات تخلو من الجامدين المتخلفين الذين يدارون عجزهم برفع وتيرة الفظاظة. حركات قوامها مناقشة السائد الرديء من الأفكار، ورفع الحصانة عنها، والاتجاه إلى الدين المستنير، والأدب، والفن والثقافة، وإلى جودة التعليم. فالأوروبيون بدأوا رحلة الخروج من عصور الظلام إلى عصر النهضة، بالشِعر الملحمي، عندما ظهرت في الربع الأول من القرن الرابع عشر "الكوميديا الإلهية"، للشاعر الإيطالي، دانتي أليغييري. كانت تلك مائة أنشودة توزعتها ثلاثة فضاءات، عَبَرَها الشاعر في غضون أسبوع واحد، حسب الملحمة: الجحيم والمَطْهر والفردوس. للأول يومان، وللتطهر أربعة، وللجنة يوم لا ثاني له!
المربّون الجيدون، والمثقفون الألمعيون، والكتّاب الملتزمون بقضايا أممهم، والقادة الاجتماعيون، والمهندسون والأطباء، والحرفيون، المفعمون جميعاً حماسة لرسالتهم لا لملء جيوبهم؛ هم الذين يشكلون جيش الإنسانيين. هؤلاء، نهضوا بالقضايا التفصيلية التي تمثل فكرة الرقي والكفاية والعدل. التعليم النظري والعملي، الدراسات العلمية، التهيئة المسبقة للمحترفين، تأهيل الأطباء والمهندسين والمحامين والمتكلمين والصنّاع. ولا فلاح لشعب يحكمه مستبد أو غبي، ينتقص من قيمة أي عنصر من هؤلاء، ويبدد مخرجات الاجتماع السياسي، في هذا السياق!
يدور النقاش سلساً، تحترم فيه الأطراف المشاركة بعضها. على هذه الطريق، كان بمقدور الطبيب وعالم الفلك والرياضيات والقانون البولندي، نيكولاس كوبرينكس، إثبات أن الأرض ليست مركز الكون، مثلما كانت تقول شروحات الكنيسة. يتبعه الفلكي والفيزيائي الإيطالي، غاليلو غاليلي، ليقول ويتكرس قوله الذي أسقط حضور الكنيسة في الحياة العلمية، فانصرف الناس عن شروحاتها الدينية إلى الحقائق العلمية؛ إن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس. أما الفيلسوف والرياضي والفيزيائي الفرنسي، رينيه ديكارت، فقد أصدر شهادة الوفاة للعصور الوسطى، وأعلن عن قيام سلطة العقل، بدءاً من كتابه "تأملات في الفلسفة" ثم "نظام الإحداثيات" الذي تأسست عليه الهندسة التحليلية، ليبدأ تاريخ الثورة العلمية!
كان ثمة فارق في بلادنا، بين التأهيل العلمي لتحسين شروط العمل والحياة الخاصة، واجتماع المؤهلين علمياً في سياق حركة أنسنة، تأخذ المجتمعات إلى الانعتاق من الظلام السلطوي. تُركت التنظيرات الأقرب لأسماع العامة، إلى المتطرفين الأصوليين الذين تردت شروحاتهم، وانقسمت فسطاطاتهم وتناحرت، فأوصلتنا إلى "داعش"، وحادت عن الطريق إلى المشروع الإسلامي الواقعي والوسطي الذي يهذب المسعى إلى النهوض الشامل. بات العقل وحركة الأنسنة البلسم الشافي من لوثة التوحش التي أصابت شرائح من النسيج الاجتماعي العربي.

حين ننظر إلى ظاهرة "داعش" في هذه البرهة العابرة من تاريخ العرب؛ نرى أننا بصدد حركة هروب شبابي من واقعٍ محبط جعل الهاربين إلى الغلو مهيئين نفسياً للعمل بموجب مقولة كُفر المجتمع، وأن النجاة بالدين والفوز بشروط أفضل للحياة، يقتضي استحداث هجرة ثالثةٍ، كما يتوهمون. في الهجرة الأولى، يستلهم القائمون على "دار الهجرة الثالثة" أحداث تلك الهجرة الأولى التي أنقذت رسالة النبي محمد عليه السلام. ولأن جذر فكر "أمراء" التطرف، هو "الوهابية" التي تجاوزها في حركتهم، وهذه حقيقة لا مراء فيها؛ فإنهم يرون أن الهجرة الثانية هي التي ذهبت بالفقيه المجدد، محمد بن عبد الوهاب (1703 ــ 1797) إلى "الدرعية" التي جعلها داراً آمنة للهجرة، ينطلق منها إلى دعوته إلى نبذ الشرك والبدع ودحض انحراف العبادة. أما هؤلاء الدواعش وأشباههم من أهل الغلوّ؛ فقد وجدوا في معطيات الواقع العربي ما يزيد كثيراً عن أسباب "هجرة" محمد بن عبد الوهاب نفسه، وكذا بالنسبة لمحفزات الشباب الذين اقتنعوا بأن الالتحاق بالحركات المتطرفة بات واجباً دينياً. فكأنما "أمراء" هذا التوجه، اخترعوا لأنفسهم منظومة مفاهيم وأفكار رأوها بديلاً لما هو قائم، ليس على الصعيد الإقليمي وحسب، وإنما
على الصعيد الكوني أيضاً. وقد، أحسوا، على الأرجح، أن أهدافهم سهلة. فالدول التي تمالئ "دار الكُفر" يرونها هشة، و"عميلة للصليبيين"، مثلما وصفها أبو بكر البغدادي، والجيوش متعبة وتفتقر إلى الحماسة والقناعة بأدوارها، فإن هربت سَلِمَت، وإن قاتلت عوقبت وتألمت. ولكي يجعل القائمون على هذا التوجه الحرب أمراً لا مفر منه، تعمدوا تعيين الفارق بين الاعتداء والدفاع عن النفس، فقالوا إنهم لا يُضمرون القضاء على أهل الدار الأخرى، وإنما يقومون "بواجب منعهم من قتل المسلمين"، ويندرج في خانة غير المسلمين كل من خالفهم في المعتقد والوجهة!
من ثغرات الحال العربي ورزاياه، ارتفع هؤلاء إلى منصة الحدث الأبرز، وسينفذ غيرهم ما لم تقم حركة أنسنة عربية، تنهض بتحولات تاريخية، وتُعلي من شأن الحرية وانفتاح الآفاق، وتباشر عملية تنظيم راشد للفضاء السياسي والاقتصادي.