كيف يعكس أسلوب الإخراج وبنيته وجهة نظر المخرج؟ في بحثه عن جواب، غَيَّر أندره بازان (1918 ـ 1958) نَسبَ الفيلم وأبوّته، ناقلاً إياه من كاتب السيناريو إلى المخرج، معرِّفًا الفيلم بأنه سرد قصّة بالصُوَر، وبـ"كادرات" توجد بينها صلات قوية. وظيفة الـ"كادرات": تحليل حدث يُروى. الـ"كادرات" عمل المخرج لا السيناريست.
يرصد بازان ـ 2018 هو عام الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لولادته (18 أبريل/ نيسان) وبالذكرى الـ60 لوفاته (11 نوفمبر/ تشرين الثاني) ـ الانتقال من اللوحة والصورة الفوتوغرافية إلى اللغة السينمائية التي يشكّلها الـ"كادر" السينمائي المتدفِّق. يقارن بين النهر والسينما عند حديثه عن العمق: عمق النهر وعمق الـ"كادر". في هذا الإطار، يتحدّث عن ثورة التقطيع لدى أورسون ويلز.
ساهم بازان في خلق مجد مخرج "المواطن كاين" (1941) لدى عشاق سينما المؤلّف. فعل الشيء نفسه مع فيتوريو دو سيكا، مخرج "سارق الدراجة" (1948). ذكر فيلم ويلز 15 مرة في كتابه "ما هي السينما؟" (4 أجزاء صادرة بين عامي 1958 و1962)، وذكر فيلم دو سيكا 27 مرة، وفيلم "بايزا" (Paisa، 1946) لروبرتو روسّيليني أكثر من مرة. هذا أثّر في أمجاد المخرجين الـ3.
يستشهد بازان بقول جان كوكتو: "السينما حدثٌ يُشاهَد من ثقب مفتاح". بهذا، يؤكّد على أهمية وجهة نظر من يرى، وموقعه. في تأكيده على مسؤولية المخرج، يطالب بإخراجٍ غير مرئي، أي تجنّب المبالغة في اللعب بالكاميرا والـ"كادرات" والمونتاج. يعرّف بازان المونتاج بأنه جوهر السينما. بحسبه، لا يظهر موقف المخرج في تكييف الوقائع وتحريفها لما يناسبه، ما يعطي أهمية مصطنعة للحدث، بل يظهر موقف المخرج في انتقاء الوقائع التي تخدم وجهة نظره. هذا الانتقاء لموقع الكاميرا يجعل كلّ لقطة في الفيلم الإيطالي تحفة بحدّ ذاتها، وتصبح أعظم عندما تظهر صلتها باللقطات التي تليها. يخدم التقطيع التقني هذا التوجّه الفني.
هذه عيّنة صغيرة من ثراء كتابات أندره بازان، المعلّم ومؤسِّس النقد السينمائي. عيّنة ذات محتوى سينمائي لا سوسيولوجي ونفسي. فهو لا يتحدّث عن الواقع الاجتماعي والـ"تابو" والعقد النفسية. من 2500 مقالة نقدية في 15 عامًا، يبقى أهمها تلك المنشورة في "ما هي السينما؟". هذا غير قابل للاختصار، لأنّ كلّ فصل، بل كلّ صفحة، غنى هائل.
هل يمكن أن تحكم على مخرج من فيلم واحد؟
يتحدّث أندره بازان عن أسبابِ نجاحٍ جوهرية وأسباب نجاحٍ عابرة للفيلم. في الحالات كلّها، لا بدّ من صناعة "الفرجة". يؤكد أن الفيلم حركة، وعلى السيناريست ابتكار وضعيات جذّابة. بعدها، يبدأ عمل المخرج. يجب أن تتْبع الكاميرا الممثل لسبب واضح، لأنّ المتفرج يريد مشاهدة الصعاب التي سيتجاوزها البطل. هذا يصنع تشويقًا وانتظارات دائمة ومفاجآت مستمرة، من دونها يهيمن الملل.
يقول بازان إنّ المتفرّج يهتم بالشخصية بسبب ما يقع لها. يطلب من المخرج أخذ معارف رجل الشارع بعين الاعتبار. هكذا يسهل عليه (المخرج) إيجاد جواب على السؤال التالي: كيف تُخرج المتفرّجين من قاعة السينما وهم في حالة أفضل من تلك الحالة التي دخلوا القاعة فيها.
أندره بازان منظّر للسينما الطليعية، ومُساهم في تأسيس مجلة "دفاتر السينما" (1951)، ومؤثّر في مسار مهرجان "كانّ" السينمائي. إنه الأب الروحي لفرانسوا تروفو، ولـ"الموجة الفرنسية الجديدة". لم يكتف بتحليل أفلام محددة، فهو يدرس تيارًا بكامله، كما في تحليله الفذّ لـ"الواقعية الإيطالية الجديدة"، قبل بلوغه سماتٍ محدّدة:
أولاً: سيناريو منظّم فيه سيطرة على الزمن. حبكة شعبية. اعتماد حكاية تستخدم قوانين القصّ الشفهي. سرد بسيط، لكنّه يقدّم الحياة الإنسانية على حافة التراجيديا. هنا، يشير بازان إلى تقاليد الحكي الإيطالية: حكي طريف ومشوِّق وموجز، وعميق طبعًا ("كتاب الدكاميرون" لبوكاشيو، 1349. إنه "كليلة ودمنة" إيطالية. سرد سهل ممتنع).
ثانيًا: تقديم واقعية محلية ببعد عالمي في قالب جمالي ساحر. واقعية لا واقع. الواقعية أسلوب لا موضوع.
ثالثًا: يركّز السرد على وقائع دالّة منتقاة، مع احترام منطقها الداخلي، والمحافظة على العلاقات السببية بين الأحداث، ما يسهِّل على المتفرّج المساهمة في بناء دلالات الفيلم.
رابعًا: استخدام أساليب السرد الروائي في الأفلام، على صعيد تتابع الأحداث والزمن والتقطيع والعرض، ما يسهّل خلق "وهم الواقع".
خامسًا: آنيّة السيناريو وحقيقة الممثل هما المادة الأولية لجمالية الفيلم الإيطالي. تصوير إيطاليا الخارجة من الحرب أعطى أفلامًا مهمّة ذات بعد وثائقي، لأنّ التصوير في الشارع لا في الاستديو. ألفرد هيتشكوك يرفض المشاهد الوثائقية، لكن الواقعية الجديدة تفضّلها، لذا تجنّبت التصوير في الاستديوهات، ونزلت إلى الشارع، وتعاملت مع ممثلين غير محترفين.
سادسًا: كثافة الديكور المنتقى، وتفضيل أشخاص واقعيين على الممثلين المحترفين. النتيجة: تقديم شخصيات ذات وجود حقيقي ومؤثّر، كما في "سارق الدرّاجة".
سابعًا: الحرص على أن ينسجم أداء الممثل مع الديكور والممثلين المشاركين معه في المشهد. أي الحرص على علاقة تبعية متبادلة، إذْ إنه من غير المسموح أن يستقل أي عنصر بالدور.
ثامنًا: حضور البعد الإنساني الثوري. هذا مصدر رؤية المخرجين الذين يصوّرون واقعهم بنَفَسٍ إنساني كوني. قدّم بازان مثلين اثنين: "بايزا" لروسّيليني و"ليالي كابيريا" (1957) لفيديريكو فيليني، لإثبات وجود تلك الخصائص.
تاسعًا: تقديم صُوَر مشحونة بالدلالات بفضل وجود ثقافة سينمائية قوية في محيط المخرجين، ما عمَّق نظرتهم الجمالية، وجعل المخرج الإيطالي شديد الوعي بوسائله الفنية وأسلوبه.
نتيجة هذا كلّه، يعترف أندره بازان أننا نخرج أفضل بعد مشاهدة فيلم إيطالي، بل نرغب في تغيير أشياء عديدة فينا وفي حياتنا، لأن الفيلم يُمكِّننا من إضاءة تجربتنا وفهم أنفسنا. هذه وظيفة الفن السابع.