أنت لاجئ
قبل سنواتٍ طويلة، كنت أحلم أن تتاح لي فرصة إقامة إبداعية خارج سورية. كنت أقرأ عن هذه الإقامات، وما تتيحه للكتاب من فرصٍ لاكتشاف آفاقٍ جديدةٍ، يمنحها التماس مع ثقافاتٍ مختلفة، وأحلم أن أفعل هذا يوماً ما، لم أتمكّن يومها من تحقيق هذا الحلم. كنت كسولةً جداً في تسويق نفسي إلى الخارج، مثلما كنت كسولةً بقصة المراسلات وتعبئة الطلبات الخاصة بمنحٍ وإقامات كهذه. أذكر أنني كنت بيني وبين نفسي أحسد من يملك القدرة على المثابرة في فعل ذلك كله، من دون أن أملك من مثابرته سوى الحلم. كان للأمر أيضاً جزء من قلة الثقة بالنفس، وبما أكتبه، على الرغم من أنني شاركت في مهرجانات شعرية عديدة خارج سورية، لكن ذلك لم يعزّز كثيراً ثقتي الإبداعية بنفسي.
أدرك الآن أنني ربما كنت أحتاج لعلاج نفسي، لكي أتخلص من عقدٍ تجعلني ضعيفة الثقة هكذا، والتي كان منها ربما الخوف من التغيير، والخوف من الدخول في تجمعاتٍ ثقافيةٍ كبيرة خارج بلدي، إذ ينبغي أن أعترف أنني، حتى فترة ليست بعيدة، كنت أشعر بالوجل، كلما دخلت إلى مكانٍ أو تجمع ثقافيٍّ، لا أعرف فيه إلا القلة، على الرغم من أنني ابنة بيت ثقافي، ولم أعرف في حياتي كلها إلا هذ الوسط. مع الوقت، بدأت تخف عوارض قلة الثقة بالنفس عندي، غير أن حلمي بالإقامة الإبداعية لم يتحقق، واختفى في واحدةٍ من خفايا الذاكرة. بعد اضطراري للخروج من سورية نهاية 2011، وانتقالي للعيش في القاهرة، المدينة الكبيرة بمساحتها وزحامها وضجيجها وتعقيدات مجتمعها، أنا المضطربة من كل ما يحدث في بلدي والممنوعة من دخوله، كان لا بد من آليةٍ نفسيةٍ تحميني من الانهيار، بسبب هذا التغيير المفاجئ والقسري في حياتي، اقترحت على نفسي أنني، لأستمر من دون فقدان التوزان، عليَّ أن أتعامل مع هذا التغيير باستخدام خيالٍ ما. كان الخيال هو حلم الإقامة الإبداعية نفسه، استحضرته من جديد، واعتبرت أنني حققته.
أنا في القاهرة في إقامة إبداعية لن تطول كثيراً، هكذا كنت أظن، كان الأمر سهلاً في البداية، إذ لم يكن السوري وقتها يشعر أنه لاجئ فيها، كان ثمّة حلم بعودة قريبة إلى سورية، وكان ثمة تسهيلات كثيرة لوجود السوري هنا. هذا الإيحاء النفسي والظرف العام ساعداني كثيراً على تخطي فكرة الوجود القسري في بلد آخر غير بلدي، استطعت معهما الانتباه إلى تحولات المجتمع المصري واختلافاته عن السوري، واستعدت قدرتي على الكتابة، وتطوير لغتي وأسلوبي. لم أشعر أنني لاجئة حقاً، ولم أشعر أنني منفية ومغتربة، غير أن الأمر اختلف لاحقاً. ضاق الأمل بعودةٍ قريبة، مثلما ضاقت الحياة على السوريين، هنا كما في أي مكان. لم يعد الإيحاء يكفي لإبعاد شبح صفة اللاجئة عني. خفّ إحساسي بالأمان النفسي والاجتماعي. عاد الخوف من التغيير المفاجئ ليسيطر على حياتي، إذ ربما، في أية لحظةٍ، سيقال لي غادري. هذا جعلني أتخبط في علاقاتي الاجتماعية والعاطفية، لم أعد أميّز حقيقة مشاعري تجاه الأشخاص في حياتي اليومية. لم أستطع التمييز، هل أنا أحتاجهم لملء هذا الفراغ الأمني في داخلي، أم أنا أحبهم فعلاً! وكان هذا اكتشافاً مرعباً لي، إذ بدأتُ أظن أن كل ما يحدث معي يحدُث لأنني سورية لاجئة، على الرغم من أن صفات اللجوء لا تنطبق عليّ إطلاقاً، فأنا لا أتلقى مساعداتٍ مالية، أعيش من كتابتي، وهذا أيضاً سبب لخوف آخر. إن توقفت عن الكتابة لأي سببٍ، لن أتمكّن من دفع إيجار منزل يأويني. لو أنني في بلدي، وحصل هذا معي، لذهبت إلى بيت أمي، وعشت فيه حتى نهاية عمري. الآن هذا الخيار الجميل ضرب من الخيال، لا يستطيع غير السوري فهم حساسيته، أو غير من يعيش التجربة نفسها، لا يشعر غير هؤلاء أيضاً بحساسية أن يقول لك صديق وأنت تكتب شيئاً يخص بلده: "لا تتدخل في ما لا يعنيك، أنت هنا مجرد ضيف". سيعيدك إلى حقيقة تريد أن تنساها: أنت لاجئ، مهما حاولت أن تنسى هذا.