أنا والباص

16 مارس 2016
(Getty)
+ الخط -
كنت أقف في الطابور، وللمرة الأولى، أنتظر دوري للصعود إلى الباص، كان المنظر جذاباً وممتعاً بالنسبة لي، أنا القادمة من سورية حديثاً، حيث كان صعود الميكروباص المهمة المستحيلة التي تتطلب كل حركات النينجا لتصعد سالماً وتحصل على مقعد من دون أن تتأذى أو من دون أن يلامسك أحدهم بدناءة بحجة الازدحام. المقاعد نظيفة وجديدة! جلست إلى جانب شاب، رغم تجنبي اللاإرادي الجلوس إلى جانبه. تلك إحدى العقد المكتسبة من مجتمعنا الشرقي. ربما اعتقد ذلك الشاب أنني أعاني من رهاب ما، أو ما شابه ذلك. حيث جلست على طرف المقعد، محاولة الابتعاد عنه قدر الإمكان. وربما لم ينتبه إلى وجودي أصلاً.

هدوء في الباص.. لا تسمع أغاني سارية السواس تغني (بس اسمع مني) ولا تسمع شجاراً بين السائق وأحد الركاب بسبب الصوت العالي. جلست بهدوء وتحرك الباص بنا وهنا كان السؤال الأصعب.. هل يتوجب علي أن أصرخ أم أن أقترب من السائق وأخبره عن المحطة التي أقصدها كما نفعل في سورية؟ فلم يسبق لي أن تعاملت مع نظام مواصلات مشابه من قبل. كان كل ذلك تجربة جديدة، لا بل أشبه بمغامرة! لم يدم تساؤلي طويلاً حتى تعثرت عينيّ بالجواب مباشرة. حين رأيت الشاشة وقد كتب عليها أسماء المحطات التالية مرافقاً لصوت واضح يقرأ ما كُتب على الشاشة. وبانتظار محطتي، اكتشفت بمحض الصدفة أن علي أن أضغط الزر ليتوقف الباص، حاولت عبثاً إخفاء ضحكة حمقاء وخجولة، فقد شعرت في تلك اللحظة وكأنني طفلة في مدينة ألعاب . ابتسمت لنفسي وكان يدور في رأسي تلقائياً مسلسل المواصلات العامة في سورية، بداية بانتظار الباص ومواعيده التي تُحدد تبعاً لمزاج السائق والطرقات المغلقة، والصراع الأزلي للحصول على مقعد شاغر، متزامناً مع ضجيج لا يغتفر، وصولاً لصراخ السائق لإنهاء المهمة المستحيلة المتعلقة بآلية دفع الأجور المميزة التي يتفرد بها هذا النظام العجيب ببلدنا. هذا بالإضافة إلى الهواء الذي يدخل من حيث لا ندري في تلك الحافلات الأسطورية.

كنت أراقب كل التفاصيل باهتمام شره، والمقارنة باتت مؤلمة حقاً، كل شيء منظم وواضح بشكل بسيط. كم هذا مريح. وعندما وصلت إلى المحطة التي أريد، وأخذ الباص بالتوقف، انتبهت لانخفاض الباص إلى جانبه قليلاً، ليوازي حافة الرصيف، وبذلك يتمكن كبار السن وذوو الاحتياجات الخاصة والأم مع عربة الأطفال والأطفال من الصعود والنزول براحة تامة من دون الحاجة إلى طلب المساعدة من أحد! لقد اهتموا بأدق التفاصيل التي تسهل التنقل لكل الأشخاص بمختلف أعمارهم وأوضاعهم. مجدداً، رجعت بذاكرتي إلى البلد، ولم أجد شيئاً مماثلاً أو شبه مماثل وكل ما تذكرته من مسلسل المواصلات كان ذلاً وإهانة تحت شعار آخر.
نزلت من الباص ولم أستطع حينها منع نفسي من البكاء. هذه التفاصيل البسيطة التي نعاني منها في سورية بتكرارها اليومي تجعل من الحياة موتاً بطيئاً. كم من انخفاض يلزمنا لتصبح حياتنا أسهل وكم من انخفاض يلزمنا لننعم بهذه الحقوق التي باتت حلماً أو ضرباً من المستحيل؟.. انخفاض في السرقات وانخفاض الفساد وانخفاض القمع وانخفاض الدكتاتورية وانخفاض المحسوبيات وانخفاض الخيانة وانخفاض وألف انخفاض.. والكثير الكثير من الارتفاع بالضمير والرقي لمستوى الإنسانية.. ليوصلنا الباص إلى محطتنا المقصودة بأمان واحترام كمل يفعل الباص في ألمانيا.

إقرأ أيضاً:السويداء: مدينة تسبقني إلى مخدتي
المساهمون