أميركا والصين بين المقاومة والمساومة

26 اغسطس 2018
+ الخط -
رأى الخبير الاقتصادي الأميركي، نورييل روبيني، أنّ الأسواق تبالغ في تقدير ما يمكن تفعيله من السياسات المفيدة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتقلّل من الأضرار المحتملة التي قد يسبّبها، وتنبأ بتشاؤمٍ. وقتها، كان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، يطالب بدبلوماسية قوية تغني الولايات المتحدة عن إطلاق الرصاص، بالاختراق الناعم واللعب على حبل المصالح وسياسة الجزرة والعصا. ولكن الصواب جانبه، حينما عوّل على ترامب في تحقيق هذا الأمل، خصوصا في مقارعته الصين، ففيما يُعدُّ وضع الولايات المتحدة أفضل، من حيث البنية التحتية القوية لاقتصادها، واعتمادها الكبير على سوقها المحلية، إلّا أنّ الحرب مع الصين، القافزة بقوة، يجعل احتمال تعرّضها للمخاطر كبيرا. لم يكن التصعيد أخيرا بفرض الولايات المتحدة رسوماً على ما قيمته 34 مليار دولار من الواردات الصينية، وردّ الصين بفرضها تعرفاتٍ انتقامية، ثم تهديد الولايات المتحدة بفرض مزيد من تدابير الحماية؛ هي الاستراتيجية الوحيدة كما هو ظاهرٌ للعيان، وإنّما هناك تدابير أخرى من البلدين، يتمسّكان بها قد تؤدي إلى تفاقم التوترات.
منذ ترشّحه لرئاسة الولايات المتحدة، لم تخلُ خُطب ترامب الانتخابية من تغوّل الصين على الملكية الفكرية الأميركية، ونقل التكنولوجيا غير المتكافئ، والحواجز غير الجمركية. ولكن في الاتجاه الآخر ضغطٌ صينيٌّ شديد على الولايات المتحدة، كون الصين تحتفظ بكمياتٍ ضخمةٍ من سندات الخزانة الأميركية، والتي قد تُدفع إلى استخدامها، فالصين تعتبر الآن مصدراً، وليست مجرّد متلقٍ لرأس المال، حيث تشكّلت أسواقها المالية من تركّز رؤوس الأموال، وأصبح 
الصينيون يشترون حصصاً وأسهماً في الشركات الآسيوية والأميركية والأوروبية أيضاً، وعملت هذه التدفقات النقدية الصينية، عبر آسيا، على التسريع من إعادة تمركز رأس المال. كما أنّ الصين حالياً التي تمتلك احتياطات هائلة من العملات الأجنبية تُعدُّ أكبر دائن لأميركا في مجال السندات. إذا اضطرت الصين، وقرّرت التخلص من جزء كبير من سندات الخزانة الأميركية التي تستثمر فيها، فسيشهد الاقتصاد الأميركي هزة عنيفة، يصعب التكهن بتبعاتها، وتؤثّر كذلك على النظام المالي العالمي.
بالإضافة إلى ما ظلّ ترامب يكرّره، هناك هاجسٌ آخر عبّر عنه بأنّه سيعيد أميركا إلى سيرتها الأولى قوة عظمى. وفي هذا، يستبطن رؤية المارد الصيني الصاعد بقوة، واستعداده للحاق أو حتى تجاوز الولايات المتحدة. وظلت مراكز دراسات استراتيجية أميركية ترفد المكتبات بكتب تهوّل من هذا الخطر المقبل، وفي ظنهم أنّ السؤال ليس ما إذا كانت الصين سوف تصبح القوة العظمى، وتتغلب على الولايات المتحدة، ولكن متى سيحدث ذلك، فإنّه يعتمد على مقدرة الصين على تحويل نموّها إلى قوة عسكرية، وقد فعلتها من قبل في ظروفٍ مغايرة.
ما قامت الصين به كرد فعل مباشر هو استهداف الجمارك الصينية سلعا أميركية، منها السيارات وسلع استهلاكية، لثقتها أنّ بإمكان هذه الحملة الدعائية الإضرار بمبيعاتها من خلال ضرب صورتها في السوق الصينية.
في كتابها "المشهد الإعلامي والإعلاني في الصين"، شرحت جينغ وانغ أنّه، مثل ما لدى الحكومة الصينية القدرة على تحويل وسائل الإعلام الصينية إلى نظام خاضع للإعلام التجاري والإعلاني، على غِرار الإعلام التجاري الغربي، فإنّ لديها، بالقدر نفسه، القدرة على تحويلها إلى محاربة أسماء تجارية عالمية. ولذلك، من المهم الأخذ في الاعتبار، عند النظر إلى وسائل الإعلام الصينية، أنّه منذ عقدٍ تقريباً شرعت الحكومة الصينية في التخطيط والتجريب الجزئي، في ما يخصّ تنظيم وسائل الإعلام، ما يجعل من "النموذج الإعلامي الصيني" على القيم والأخلاق أساس تعامل بين الدول، من دون الخوض في موضوع الحريات. بالطبع، هذا التطوّر فرضه واقع التنمية في البلاد خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وقد نجحت الحكومة الصينية في جعل الإعلام يستجيب لرغبات الجمهور الترفيهية، وأدّى ذلك إلى تنويع المحتوى الإعلامي بين ثقافي وتجاري، فازدادت الصحف والقنوات التلفزيونية.
وركّزت وانغ على ما ظلّ يمارسه الحزب الشيوعي الصيني من دفع المحطات التلفزيونية نحو السوق، مع تزايد خوف القيادات المحافظة من البرامج التي تدغدغ مشاعر المشاهدين، وتعكس صورة عالمية خارج سيطرة الدولة. وللتلفزيون الصيني وضع مهم، وسط ترسانة الإعلام الحكومي، حيث مشاهدوه أكثر من 1,2 مليار، ويضم أكثر من ثلاثة آلاف قناة، ما يجعله أهم وسيلة دعاية يستخدمها الحزب، سواء في نشرة الأخبار المسائية أو المسلسلات التاريخية. ووفقاً لهذا الواقع، فإنّ رأس المال الذي ساعد على ازدهار الإعلام في الصين، لم ينجح في تحريره من قبضة الحكومة، فوسائل الإعلام المنقادة بالسوق لا يمكن مساواتها مع وسائل الإعلام الديمقراطية في الغرب. وبالتالي، لا يمكنها تحرير الأصوات المضادّة للمؤسسات الرسمية في الصين. في أحيان كثيرة، ترتبط الحكومة والسوق بشروط تواطئية في قطاع وسائل الإعلام، وبعد عام 1992، ربطت السلطات وسائل الإعلام بفكرة الأمن الثقافي، فحتى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية لم تلزم الصين بتحرير المحتوى، ولكن بعد 2004، بدت الصين مستعدّة للاستثمار الأجنبي في محتوى البرامج التلفزيونية.
لدى الصين القدرة على المناورة وسياسة النفس الطويل، ولعب أوراق عديدة. منذ نشأة الجمهورية، والنظام الصيني يمشى على خُطى القائد الاستراتيجي العسكري، سون تزو، بتوجيهه جيشه قبل 500 عام قبل الميلاد أنّ القتال والانتصار في جميع المعارك ليس قمة المهارة، إنّما التفوق الأعظم هو كسر مقاومة العدو من دون أي قتال.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.