14 فبراير 2018
أميركا في رِمال الشرقِ الأوسَط المُتحرِّكة
يُجمِعُ مؤازِرو الاتِّفاق النووي ومُعارِضوه على أنَّ توقيعَه بينَ مجموعة الـ 5+ 1 وإيران يتجاوَزُ إطارَ إنتاج وانتِشارِ الطاقة النووية التي تبقى إطاراً ضيقاً، على الرغمَ من حساسيّة المسألة. ويكرِّس الاتِّفاق قبولَ الولايات المتَّحدة بمكانةِ إيران في الشرق الأوسط، ويُنهي وَهمَ الهيمنة الأميركية المُطلَقة على المِنطقة، وهو توَهُّم سائدٌ منذُ حرب الخليج عام 1990-1991، وتجذَّرَ مع سياسة جورج بوش الإمبرياليّة بعد أحداثِ 11 سبتمبر/أيلول 2001. فبعد أن تخلَّصَت القوّة العسكرية الأميركية من "إمبراطورية الشرّ" السوفياتية، سعت إلى الإجهاز على "الدُّول الغوغائية" (Etats voyous)، من أفغانِستان إلى إيران، مُروراً بالعراق وسورية، لتفرضَ أخيراً "نظاماً ليبرالياً" ومنفذاً "حرّاً" إلى البترول.
أضحى هذا الهدفُ بعيداً عن منالِ واشنطن، بعد الفشلِ العسكري في العراق وأفغانستان، حيث يرتبِطُ مُستقبلُ النظام ببقاءِ قوّة كبيرة من الجيش الأميركي على الأرض. وتعبَ الرأي العام الأميركي من ذلك "الشرق المعقَّد"، بحكمِ الأزمة الاقتصاديّةِ وانعدامِ النتائج الملموسةِ على أرض الواقع، ويعكسُ انتخابُ أوباما هذه الخيبة.
وكما يلاحظُ أبراهام فولّير، وهو ضابطٌ في وكالةِ المخابرات المركزية الأميركية، وأحدُ أفضلِ المطّلعين على شؤونِ المنطقة، فالولايات المتحدة "تعترِف، أخيراً، بعد ما تكبَّدته من خسائر في العراق وأفغانستان والصومال، بأنّ سياستَها المُعتمِدةَ على نمطِ الهيمَنة التقليديّة لم تتغيّر". وذلكَ في حين "أنَّ إيران هي على الأرجحِ الدولةُ الأهم، بعد مصر إبّان حكم جمال عبد الناصر التي اعتمَدت سياسةً صريحةً وواضِحةً تتحدّى فيها القُدرةَ الأميركيّة على التصرُّفِ، من دونِ محاسبةٍ في الشرق الأوسط".
من هنا، باتَ الموضوعُ بالنسبة للولايات المتحدة هو التكيُّفُ مع حدودِ سلطتٍها، ومع الفوضى الإقليميّة، من خلالِ تطويرِ استراتيجيّة أكثرَ حذاقة تجاهَ إيران. تعتمِد تلك الاستراتيجية على دمجِ إيران في اللعبةِ الإقليميّة، وفي الحربِ ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية، وهو عدوُّ إيران اللدودُ الذي عَجزَت الطائرات الأميركية والفرنسية والبريطانية على النيل منه، كما عجزت عن الغرض نفسِه "الهجومات المضادة" للجيش العراقي. وإن كان لا بدَّ من إثبات، فقضيَّةُ "الشعبة 30"، المكوَّنة من " ثوّار مُعتَدِلين" سوريّين قامَت واشنطن بتدريبِهم، تشكِّل الإثباتَ الأكثرَ دلالةً على الحرج الأميركي. إذ كانَ من المُفترض، بدايةً، أن تضمَّ تلكَ الشعبةُ 5000 نفر، تمَّ اختيارُ وتدريبُ 54 منهم بعدَ حملةِ انتقاءٍ (بكلفةٍ قدرُها 41 مليون دولار). سرعانَ ما اعتَقلَت جبهة النصرة، وهي فرعٌ للقاعدة، العديدَ من قادتِهم. تمَّ إطلاقُ سراحِهم، بعدَ أن وجَّهوا التحيّة لدورِ إخوانِهم في "النصرة" في صراعِهم ضدَّ النظام. نفهَمُ من ذلك أنَّ الشرقَ الأوسط أصبحَ بحراً من الرمال المُتحرِّكة، يصعبُ فيه التمييز بين الحليف والعدوّ، وتُحاوِل الولاياتُ المُتَّحِدة ألّا تَغرَق فيه.
يَعتمِد نجاحُ الاستراتيجيّة الأميركيّة على قُدرةِ أوباما على إقناع الكونغرس بالموافَقة على الاتِّفاق النووي مع إيران. وقد وضعَ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كلَّ قِواهُ في المعركة، وجنّد لهذا الغرضِ كلَّ أنصارِه الأميركيّين الذين جعَلوا من أمنِ إسرائيل المُفترضِ ركيزةَ التزامهم السياسي في الولايات المتّحدة. فشلَ نتنياهو، وأمَّن الرئيس الأميركي عدداً وافياً من أصواتِ الأعيان، لتَجاوزِ اعتراضاتِ المُنتَخبين الجمهوريّين. بيدَ أنّ الدعمَ الأميركي لإسرائيل مُستمرٌّ، على الرّغم َمن التوتُّر المَلموسِ بين الزعيميْن، وإنْ باتَ متوقَّعاً أن تتركَ المواجَهةُ آثاراً في قلبِ الجالية اليهوديّة الأميركية نفسها. فعلى أرضِ الواقعِ الشرق أوسطي، وباستِثناءِ الملفِّ الفلسطيني، أصبَحَت إسرائيلُ فاعِلاً جانبيَّاً في سورية والعراق، ومصدَرَ إزعاجٍ لا أكثرَ بالنسبةِ للبيت الأبيض: الأهمُّ هو الحؤول دون أية مجازفة إسرائيلية، تماماً كما كان الحال إبّان الحربِ ضدَّ العراق في 1990-1991.
طَمأنةُ دولِ الخليج
منذُ التوقيعِ على الاتِّفاق مع إيران، وأوباما يحاولُ جهدَه أَن يُطمئن دولَ الخليج: لن يكونَ هُناكَ انقلابٌ في التحالفات. فورقةُ أميركا الأساسيّة هي السيطرةُ على المِنطقة والبترول، ، وإنْ (أو بالأحرى لا سيما) غذّى ذلك البترول آسيا بالمرتبة الأولى. وقد ذكّر الرئيسُ الأميركي، باراك أوباما، نُظراءَه في شبهِ الجزيرة العربية بأنَّ المحورَ الآسيوي لم يَنتجْ منه أي فضٍّ للارتِباطات مع دول الخليج، حيثُ تحتفِظ الولايات المتحدة بـ 25000 عسكري، وبقواعِدَ في البحرين وقطر، وبـتسهيلاتٍ في كلِّ الدول. كما أنّه من المُفترَض أن يزيد الأسطولُ الأميركيُّ في المِنطقة من 30 إلى 40 بارجةٍ في غضونِ نهاية العقد. وتؤمِّن الولاياتُ المتّحِدة التفوُّقَ التكنولوجي لدولِ مجلسِ التعاوُن على إيران، إذ إنَّ المملكة العربيّة السعودية وحدَها كرّست 80 مليار دولار لتغطِيةِ نفقاتِها العسكرية، مقابلَ 15 مليارا لإيران. وكما أنَّ الاتِّفاقَ حولَ النوَوي الإيراني يتضمّن بنوداً تمدِّد حَظْر بيعِ أو تَحويلِ أسلحة ثقيلةٍ لذلك البلد مدة خمس سنوات.
وقد أكَّد اللقاءُ الذي تمَّ في 3 أغسطس/آب 2015 في الدوحة، بين وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وممثلين عن مجلسِ التعاون الخليجي، أنَّ قمّةً انعقدت بين قادةِ دول المجلسِ التعاون والرئيسِ الأميركي في مايو/أيار 2015، تمَّ فيها الاتِّفاقُ على تعهُّدات بالمساعدةِ العسكريّة وضمانات أمنيّةٍ والتِزاماتٍ بوحدةِ الأرضِ لدولِ الخليج التي دعمت الاتفاقَ، على الرغمَ من تحفُّظاتِها، وأكّدَ وزيرُ الخارجيّةِ السعودي، عادل الجبير، في 23 يوليو/تموز أنَّ من شأنِ ذلك الاتِّفاق أن يُجنِّب إيران الحصولَ على القُنبلةِ النووية. ومن شأنِ زيارةِ العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن في 4 أيلول/ سبتمبر الجاري، أنْ تُرَسِّخَ مصالحةً لا تخلو من الغبار.
حلفاء غيرُ طيِّعين
ليسَت الرياض حليفاً سهلاً. قد تبادرُ المملكةُ إلى قراراتٍ أحاديّةٍ تُزعِج الولايات المتحدة، كالتدخُّلِ في اليمن الذي اضطُرَّت الولاياتُ المتَّحِدة لدعمِه من دون أن تنجحَ في تحْجيمِه، في حينِ تعترِف بأن تدخُّلَ إيران إلى جانبِ الحوثيّين يبقى محدوداً. من ناحيةٍ ثانية، تنظرُ واشنطن بقلقٍ إلى الاستراتيجيّة السعودية الهادِفة إلى تشكيل "جبهةٍ سنِّيَّة"، تمْتدُّ من جماعة الإخوان المُسلِمين إلى بعضِ الفضائل السوريّة المُرتبِطة بالقاعدة، خصوصاً جبهةِ النصرة، وردَّ فعلِها المُتلَكِّئ تجاهَ القاعدة في شبه الجزيرة العربية (AQPA) التي يرفرِفُ علَمُها، اليومَ، في بعضِ أحياءِ عدن. قرارات تقلِقُ إيران، وتُثيرُ الشكوك حولَ قدرةِ الولايات المتَّحِدة على تَكوينِ جبهةٍ مُوحّدة ضدَّ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميّة والـ"إرهاب".
وتشكِّل تركيا، برئاسةِ رجب طيب أردوغان، حليفاً استراتيجياً آخر للولايات المتَّحِدة في المِنطقة، فتركيا بلدٌ عضوٌ في حلفِ الشمال الأطلسي (OTAN)، جيشُه من أقوى جيوشِ الحلف، وكانَ مُتوقَّعاً أن تنخرِط في مرحلة أبكرَ بكثيرٍ ضدَّ "الدولةِ الإسلامية". ومع ذلك،َ لم تحصل الولاياتُ المتَّحِدة على إذنٍ باستخدامِ القواعد الجوِّيَّة التركيّة إلا بعدَ أشهر منَ المفاوَضات والضغوط. و مع ذلك، لا تزالُ التوتُّرات مَوجودة. إذ إن مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاترين آشتون، أعلَنت، في 20 أغسطس/آب الماضي، أنّ على تركيا بذلَ جهودٍ أكبرَ في محاربةِ تنظيم الدولة الإسلامية. هل اتَّفَقت الدَولَتان على إنشاءِ مِنطقة أمنيّة في سورية؟ أيَّةُ قوى ستؤمِّن حمايةَ هذه المنطقة؟ تتضارَبُ التصريحات في هذا الشأن.
ذلك أنّ أوْلوِيّات أنقرة لا تتقاطَعُ وأولويّات واشنطن. فالطيران التركي استهدفَ مواقعَ حزبِ العمال الكردستاني، على مقربةٍ من المواقع الأميركية، وأُعلِمَت واشنطنَ بذلك عشر دقائق قبل بداية العملية. ومن المحتمل أن تؤدّي القطيعةُ بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني ليس فقط إلى زعزعةِ الوضعِ في تركيا، بل وأيضاً إلى إلحاقِ الضررِ بالعلاقاتِ على الأرضِ بين القوى الكرديّة السورية (المُرتبِطة بحزب العمال الكردستاني، وإن رَفضت واشنطن الاعتراف بذلك) من جهةٍ، والقوى الأميركية من جهة أخرى. فهل سيؤدّي شجبُ تنظيم الدولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والنداءُ الذي أطلقَه إلى "فتحِ إسطنبول" إلى توطيدِ خيارِ تركيا في "حربها ضد الإرهاب"؟
وتشكِّل إيران خطراً من نوعٍ آخرَ على الولايات المتَّحِدة، حيث إنها القوَّةُ التي تقاوِمُ النظام القائم، وتدعمُ الفلسطينيين، وتلعبُ دوراً مُهمَّاً في العراق، وسورية ولبنان، ودوراً أقلَّ أهميةً في اليمن. من المؤكَّد أنَّ الولاياتِ المتَّحِدة لم تقرِّر العزوفَ عن محاولةِ احتِواءِ قوةِ إيران الجديدة، وذلك من دونَ إبعادِ نقاطِ "الالتِقاء"، لا سيَّما في النضال ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية والقاعدة، وإن انقسَمت الإدارة الأميركية حولَ تحديدِ أيَّةِ مجموعةٍ بينهما ستُعتَبَر هدفاً أوْلَوٍيّاً.
من المفروضِ أن تكونَ سورية أوّل حقلِ تجاربَ لتلك الفلسفة. هذا ما شرَحَه مسؤولون كبار في الإدارةِ الأميركية، وهذا أملُ وزير الخارجية جون كيري. وقد جرت، في هذا الصددِ، لقاءات بين مسؤولين أميركيين، روس، إيرانيين، وسوريين. لا بل إنَّ مدير جهاز الاستخبارات السورية، علي مملوك، توجَّه إلى المملكة العربية السعودية، حسب ما وردَ في جريدة الأخبار اللبنانية. وصوَّت مجلسُ الأمن الدولي، بالإجماع، على قرارٍ ينادي بحلٍّ سياسي في سورية، ويقترحُ مخطَّطاً مفصَّلاً. لكن، هل سيكونُ ذلك القرارُ كافياً لدفعِ آليةٍ للحلّ؟ هل منَ الممكِنِ فكُّ خيوطِ الصراع المُتشابِكة في العراق، وسورية، واليمن ولينان؟ كيفَ يُمكنُ التوفيق بين مصالحِ المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والبقاء في الوقتِ نفسِه "القوة التي لا غنى عنها": ذلك هو مربطُ الفرسِ بالنسبة للولايات المتحدة.
(ترجمة هناء جابر)
أضحى هذا الهدفُ بعيداً عن منالِ واشنطن، بعد الفشلِ العسكري في العراق وأفغانستان، حيث يرتبِطُ مُستقبلُ النظام ببقاءِ قوّة كبيرة من الجيش الأميركي على الأرض. وتعبَ الرأي العام الأميركي من ذلك "الشرق المعقَّد"، بحكمِ الأزمة الاقتصاديّةِ وانعدامِ النتائج الملموسةِ على أرض الواقع، ويعكسُ انتخابُ أوباما هذه الخيبة.
وكما يلاحظُ أبراهام فولّير، وهو ضابطٌ في وكالةِ المخابرات المركزية الأميركية، وأحدُ أفضلِ المطّلعين على شؤونِ المنطقة، فالولايات المتحدة "تعترِف، أخيراً، بعد ما تكبَّدته من خسائر في العراق وأفغانستان والصومال، بأنّ سياستَها المُعتمِدةَ على نمطِ الهيمَنة التقليديّة لم تتغيّر". وذلكَ في حين "أنَّ إيران هي على الأرجحِ الدولةُ الأهم، بعد مصر إبّان حكم جمال عبد الناصر التي اعتمَدت سياسةً صريحةً وواضِحةً تتحدّى فيها القُدرةَ الأميركيّة على التصرُّفِ، من دونِ محاسبةٍ في الشرق الأوسط".
من هنا، باتَ الموضوعُ بالنسبة للولايات المتحدة هو التكيُّفُ مع حدودِ سلطتٍها، ومع الفوضى الإقليميّة، من خلالِ تطويرِ استراتيجيّة أكثرَ حذاقة تجاهَ إيران. تعتمِد تلك الاستراتيجية على دمجِ إيران في اللعبةِ الإقليميّة، وفي الحربِ ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية، وهو عدوُّ إيران اللدودُ الذي عَجزَت الطائرات الأميركية والفرنسية والبريطانية على النيل منه، كما عجزت عن الغرض نفسِه "الهجومات المضادة" للجيش العراقي. وإن كان لا بدَّ من إثبات، فقضيَّةُ "الشعبة 30"، المكوَّنة من " ثوّار مُعتَدِلين" سوريّين قامَت واشنطن بتدريبِهم، تشكِّل الإثباتَ الأكثرَ دلالةً على الحرج الأميركي. إذ كانَ من المُفترض، بدايةً، أن تضمَّ تلكَ الشعبةُ 5000 نفر، تمَّ اختيارُ وتدريبُ 54 منهم بعدَ حملةِ انتقاءٍ (بكلفةٍ قدرُها 41 مليون دولار). سرعانَ ما اعتَقلَت جبهة النصرة، وهي فرعٌ للقاعدة، العديدَ من قادتِهم. تمَّ إطلاقُ سراحِهم، بعدَ أن وجَّهوا التحيّة لدورِ إخوانِهم في "النصرة" في صراعِهم ضدَّ النظام. نفهَمُ من ذلك أنَّ الشرقَ الأوسط أصبحَ بحراً من الرمال المُتحرِّكة، يصعبُ فيه التمييز بين الحليف والعدوّ، وتُحاوِل الولاياتُ المُتَّحِدة ألّا تَغرَق فيه.
يَعتمِد نجاحُ الاستراتيجيّة الأميركيّة على قُدرةِ أوباما على إقناع الكونغرس بالموافَقة على الاتِّفاق النووي مع إيران. وقد وضعَ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كلَّ قِواهُ في المعركة، وجنّد لهذا الغرضِ كلَّ أنصارِه الأميركيّين الذين جعَلوا من أمنِ إسرائيل المُفترضِ ركيزةَ التزامهم السياسي في الولايات المتّحدة. فشلَ نتنياهو، وأمَّن الرئيس الأميركي عدداً وافياً من أصواتِ الأعيان، لتَجاوزِ اعتراضاتِ المُنتَخبين الجمهوريّين. بيدَ أنّ الدعمَ الأميركي لإسرائيل مُستمرٌّ، على الرّغم َمن التوتُّر المَلموسِ بين الزعيميْن، وإنْ باتَ متوقَّعاً أن تتركَ المواجَهةُ آثاراً في قلبِ الجالية اليهوديّة الأميركية نفسها. فعلى أرضِ الواقعِ الشرق أوسطي، وباستِثناءِ الملفِّ الفلسطيني، أصبَحَت إسرائيلُ فاعِلاً جانبيَّاً في سورية والعراق، ومصدَرَ إزعاجٍ لا أكثرَ بالنسبةِ للبيت الأبيض: الأهمُّ هو الحؤول دون أية مجازفة إسرائيلية، تماماً كما كان الحال إبّان الحربِ ضدَّ العراق في 1990-1991.
طَمأنةُ دولِ الخليج
منذُ التوقيعِ على الاتِّفاق مع إيران، وأوباما يحاولُ جهدَه أَن يُطمئن دولَ الخليج: لن يكونَ هُناكَ انقلابٌ في التحالفات. فورقةُ أميركا الأساسيّة هي السيطرةُ على المِنطقة والبترول، ، وإنْ (أو بالأحرى لا سيما) غذّى ذلك البترول آسيا بالمرتبة الأولى. وقد ذكّر الرئيسُ الأميركي، باراك أوباما، نُظراءَه في شبهِ الجزيرة العربية بأنَّ المحورَ الآسيوي لم يَنتجْ منه أي فضٍّ للارتِباطات مع دول الخليج، حيثُ تحتفِظ الولايات المتحدة بـ 25000 عسكري، وبقواعِدَ في البحرين وقطر، وبـتسهيلاتٍ في كلِّ الدول. كما أنّه من المُفترَض أن يزيد الأسطولُ الأميركيُّ في المِنطقة من 30 إلى 40 بارجةٍ في غضونِ نهاية العقد. وتؤمِّن الولاياتُ المتّحِدة التفوُّقَ التكنولوجي لدولِ مجلسِ التعاوُن على إيران، إذ إنَّ المملكة العربيّة السعودية وحدَها كرّست 80 مليار دولار لتغطِيةِ نفقاتِها العسكرية، مقابلَ 15 مليارا لإيران. وكما أنَّ الاتِّفاقَ حولَ النوَوي الإيراني يتضمّن بنوداً تمدِّد حَظْر بيعِ أو تَحويلِ أسلحة ثقيلةٍ لذلك البلد مدة خمس سنوات.
وقد أكَّد اللقاءُ الذي تمَّ في 3 أغسطس/آب 2015 في الدوحة، بين وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، وممثلين عن مجلسِ التعاون الخليجي، أنَّ قمّةً انعقدت بين قادةِ دول المجلسِ التعاون والرئيسِ الأميركي في مايو/أيار 2015، تمَّ فيها الاتِّفاقُ على تعهُّدات بالمساعدةِ العسكريّة وضمانات أمنيّةٍ والتِزاماتٍ بوحدةِ الأرضِ لدولِ الخليج التي دعمت الاتفاقَ، على الرغمَ من تحفُّظاتِها، وأكّدَ وزيرُ الخارجيّةِ السعودي، عادل الجبير، في 23 يوليو/تموز أنَّ من شأنِ ذلك الاتِّفاق أن يُجنِّب إيران الحصولَ على القُنبلةِ النووية. ومن شأنِ زيارةِ العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن في 4 أيلول/ سبتمبر الجاري، أنْ تُرَسِّخَ مصالحةً لا تخلو من الغبار.
حلفاء غيرُ طيِّعين
ليسَت الرياض حليفاً سهلاً. قد تبادرُ المملكةُ إلى قراراتٍ أحاديّةٍ تُزعِج الولايات المتحدة، كالتدخُّلِ في اليمن الذي اضطُرَّت الولاياتُ المتَّحِدة لدعمِه من دون أن تنجحَ في تحْجيمِه، في حينِ تعترِف بأن تدخُّلَ إيران إلى جانبِ الحوثيّين يبقى محدوداً. من ناحيةٍ ثانية، تنظرُ واشنطن بقلقٍ إلى الاستراتيجيّة السعودية الهادِفة إلى تشكيل "جبهةٍ سنِّيَّة"، تمْتدُّ من جماعة الإخوان المُسلِمين إلى بعضِ الفضائل السوريّة المُرتبِطة بالقاعدة، خصوصاً جبهةِ النصرة، وردَّ فعلِها المُتلَكِّئ تجاهَ القاعدة في شبه الجزيرة العربية (AQPA) التي يرفرِفُ علَمُها، اليومَ، في بعضِ أحياءِ عدن. قرارات تقلِقُ إيران، وتُثيرُ الشكوك حولَ قدرةِ الولايات المتَّحِدة على تَكوينِ جبهةٍ مُوحّدة ضدَّ تنظيمِ الدولةِ الإسلاميّة والـ"إرهاب".
وتشكِّل تركيا، برئاسةِ رجب طيب أردوغان، حليفاً استراتيجياً آخر للولايات المتَّحِدة في المِنطقة، فتركيا بلدٌ عضوٌ في حلفِ الشمال الأطلسي (OTAN)، جيشُه من أقوى جيوشِ الحلف، وكانَ مُتوقَّعاً أن تنخرِط في مرحلة أبكرَ بكثيرٍ ضدَّ "الدولةِ الإسلامية". ومع ذلك،َ لم تحصل الولاياتُ المتَّحِدة على إذنٍ باستخدامِ القواعد الجوِّيَّة التركيّة إلا بعدَ أشهر منَ المفاوَضات والضغوط. و مع ذلك، لا تزالُ التوتُّرات مَوجودة. إذ إن مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاترين آشتون، أعلَنت، في 20 أغسطس/آب الماضي، أنّ على تركيا بذلَ جهودٍ أكبرَ في محاربةِ تنظيم الدولة الإسلامية. هل اتَّفَقت الدَولَتان على إنشاءِ مِنطقة أمنيّة في سورية؟ أيَّةُ قوى ستؤمِّن حمايةَ هذه المنطقة؟ تتضارَبُ التصريحات في هذا الشأن.
ذلك أنّ أوْلوِيّات أنقرة لا تتقاطَعُ وأولويّات واشنطن. فالطيران التركي استهدفَ مواقعَ حزبِ العمال الكردستاني، على مقربةٍ من المواقع الأميركية، وأُعلِمَت واشنطنَ بذلك عشر دقائق قبل بداية العملية. ومن المحتمل أن تؤدّي القطيعةُ بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني ليس فقط إلى زعزعةِ الوضعِ في تركيا، بل وأيضاً إلى إلحاقِ الضررِ بالعلاقاتِ على الأرضِ بين القوى الكرديّة السورية (المُرتبِطة بحزب العمال الكردستاني، وإن رَفضت واشنطن الاعتراف بذلك) من جهةٍ، والقوى الأميركية من جهة أخرى. فهل سيؤدّي شجبُ تنظيم الدولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والنداءُ الذي أطلقَه إلى "فتحِ إسطنبول" إلى توطيدِ خيارِ تركيا في "حربها ضد الإرهاب"؟
وتشكِّل إيران خطراً من نوعٍ آخرَ على الولايات المتَّحِدة، حيث إنها القوَّةُ التي تقاوِمُ النظام القائم، وتدعمُ الفلسطينيين، وتلعبُ دوراً مُهمَّاً في العراق، وسورية ولبنان، ودوراً أقلَّ أهميةً في اليمن. من المؤكَّد أنَّ الولاياتِ المتَّحِدة لم تقرِّر العزوفَ عن محاولةِ احتِواءِ قوةِ إيران الجديدة، وذلك من دونَ إبعادِ نقاطِ "الالتِقاء"، لا سيَّما في النضال ضدَّ تنظيمِ الدولة الإسلامية والقاعدة، وإن انقسَمت الإدارة الأميركية حولَ تحديدِ أيَّةِ مجموعةٍ بينهما ستُعتَبَر هدفاً أوْلَوٍيّاً.
من المفروضِ أن تكونَ سورية أوّل حقلِ تجاربَ لتلك الفلسفة. هذا ما شرَحَه مسؤولون كبار في الإدارةِ الأميركية، وهذا أملُ وزير الخارجية جون كيري. وقد جرت، في هذا الصددِ، لقاءات بين مسؤولين أميركيين، روس، إيرانيين، وسوريين. لا بل إنَّ مدير جهاز الاستخبارات السورية، علي مملوك، توجَّه إلى المملكة العربية السعودية، حسب ما وردَ في جريدة الأخبار اللبنانية. وصوَّت مجلسُ الأمن الدولي، بالإجماع، على قرارٍ ينادي بحلٍّ سياسي في سورية، ويقترحُ مخطَّطاً مفصَّلاً. لكن، هل سيكونُ ذلك القرارُ كافياً لدفعِ آليةٍ للحلّ؟ هل منَ الممكِنِ فكُّ خيوطِ الصراع المُتشابِكة في العراق، وسورية، واليمن ولينان؟ كيفَ يُمكنُ التوفيق بين مصالحِ المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والبقاء في الوقتِ نفسِه "القوة التي لا غنى عنها": ذلك هو مربطُ الفرسِ بالنسبة للولايات المتحدة.
(ترجمة هناء جابر)