أميركا عدو أم حبيب؟

04 سبتمبر 2017
+ الخط -
شاهدت ، أخيرا، مع أطفالي فيلم رسوم متحركة يدعي "بوكس ترولز"، قصته لطيفة، ولكن فكرة فيه لفتت انتباهي، فقد كان يحكي عن كائنات بائسة تسمى "بوكس ترولز"، تعيش تحت الأرض في كهوف وفي شبكات الصرف الصحي، شكلها مخيف قليلا، وتعيش داخل صناديق كرتون بدلا من الملبس، وكان لديها هواية هي سبب المشكلة في تلك القصة، هي أنهم يظهرون ليلا لجمع أي أشياء معدنية أو أي جهاز إلكتروني قديم، فقد كانت هوايتهم اختراع وتكوين آلات جديدة باستخدام تلك القطع الصغيرة، لكي يكون لهم عالم فيه بعض الترفيه تحت الأرض.
ولكن الحاكم والنبلاء استغلوا خوف الناس منهم، وفتكوا بصناعة قصة عن الوحوش التي تخطف الأطفال ليلا وتأكلهم، وكانت هناك مسرحيات تعرض في الشوارع عن وحشية مخلوقات البوكس ترولز وهمجيتها، ولم يكن أحد يجرؤ على مناقشة حقيقة تلك الكائنات، وكانت الجماهير تهاجم كل مِن يحاول توضيح أن تلك الكائنات ليست شريرة ولا تأكل الأطفال، وأنه يمكن التعايش معها، وأنها ذكية يمكنها خدمة المدينة، إن تم توظيفها بشكل سليم.
ولكن، بعد أحداث ومفاجآت ومطاردات عديدة، والصراع بين الخير والشر، وبعد نضال أبطال الفيلم لكشف الحقيقة ومواجهة الكذب، يكتشف الناس أن تلك المخلوقات لطيفة، بل تستطيع عمل اختراعات وآلات من قطع الخردة وبقايا المهملات المعدنية، وتستطيع إفادة البشر، ويمكن العيش المشترك معها.
على الرغم من أنه فيلم رسوم متحركة للأطفال، إلا أنه بعد أحداث عديدة تشبه واقعنا، فقد كان عندهم أيضا حاكم لا يهمه إلا منصبه، وللحفاظ على امتيازاته وكرسيه، كان لا بد من اختلاق فزاعة وأسطورة، كي يضمن تغييب عقول الناس، وتأجيج غريزة الخوف، ليظل في الحكم مدى الحياة بدون معارضة، أو اضطرابات، وهذا يتطلب أيضا جهازاً إعلامياً ينشر الكذب، ويزيد تخويف الناس من شيء وهمي، ليس له أساس من الصحة.
لا أعرف لماذا ذكرني هذا بالجدل الذي يدور في مصر بشأن المعونة الأميركية، فقد قررت
الإدارة الأميركية، أخيرا، اقتطاع حوالى 295 مليون دولار من المعونة الموجهة إلى مصر، سواء اقتصادية للحكومة المصرية أو مساعدات عسكرية للجيش المصري، وكان القرار من الكونغرس هذه المرة، بسبب ضغوط أعضاء عديدين، بسبب تكرار (وفجاجة) انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وهو ما يخالف القانون الأميركي بضرورة احترام البلاد التي تتلقى المعونة حقوق الإنسان. وبمجرد ورود الأخبار عن القرار، بدأت عواصف الردود المعلبة والمحفوظة، عن المؤامرات الأميركية ومخططات التقسيم، وأن إدارة الرئيس دونالد ترامب مليئة بالإخوان المسلمين، وأن الكونغرس مليء بهم أيضا، وأن المنظمات الحقوقية الدولية التي تتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان يديرها الإخوان المسلمون، بهدف الإساءة إلى سمعة مصر والإضرار بمصالحها.
بصراحة، كان حال الإعلام المصري يبعث على الرثاء، فبعضهم فتح النار بدون تمييز على كل ما هو غربي وأميركي، مكرّرا أساطير ما يطلق عليه حروب الجيل الرابع، ومؤامرات التقسيم وخرافات ما يدعى سايكس بيكو2. ووجد إعلاميون يحاولون الظهور بشكل أكثر احترافية أن من الصعب وصف ترامب الآن بالعدو الصهيوني، بعدما كانوا يصفونه بالصديق المخلص المصحح لخطوات سلفه باراك أوباما الإخواني، ومن الصعب أن يصفوه بالشرير الآن بعدما وجه إليه عبد الفتاح السيسي مناشدة شهيرة، قائلا فيها: إلى فخامة الرئيس ترامب من فضلك ساعدنا. .. ولذلك لا بد من أن يكون الخطاب أكثر اتزانا، فزعم بعض هؤلاء أن ترامب رجل صالح، لكنّ حوله فريقاً من المتعاطفين مع الإخوان المسلمين في البيت الأبيض، أو أن ترامب رجل صالح، لكن ذيول إدارة أوباما في الكونغرس وفي البيت الأبيض هي التي تحارب مصر.
وهذا ما يجعلني ويجعل كثيرين يتساءلون: هل الولايات المتحدة عدو أم حبيب؟ فنادرا ما تجد مؤيداً للسيسي، وينطق بأي شيء منطقي عن أي قضية. ومن المستحيل أن يجرؤ أحد من مؤيدي السيسي، إعلامياً كان أو ديبلوماسياً، على أن يفسر عدم منطقية كيف أن الولايات المتحدة والغرب هم الشر الأعظم الذي يريد تدمير مشروع السيسي غير المسبوق، وكيف أن رواية المؤامرات الأميركية تتعارض مع حقيقة سعي الحكومات المصرية المتعاقبة إلى التسول والحصول على أكبر قدر من المساعدات الأميركية، بدون الالتزام بشروط القانون الأميركي الذي يلزم الدول متلقية المساعدات بأن تحترم حقوق الإنسان، مع الرفض الدائم لشروط المعونة باحترام حقوق الإنسان، أو أن يفاجئ المصريين، ويخبرهم بأن صناعة القرار في الولايات المتحدة ليست في يد الرئيس فقط كما هي عندنا، أو أن يشرح كيف يمكن تفسير السعي الدائم من الجيش المصري لتلقي تدريبات مشتركة مع الولايات المتحدة، أو يفسر للجمهور لماذا يتم إنفاق ملايين الدولارات من أموال الشعب المصري على شركات الدعاية والعلاقات الأميركية التي تحاول تحسين صورة النظام المصري أمام دوائر صنع القرار الأميركية، من أجل عدم قطع المعونة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان التي تحدث، والتي يتم ذكرها في تقارير المنظمات الدولية عن مصر.
هل يستطيع إعلامي، أو مسؤول، أو ضابط سابق يعمل في مهنة الخبير الاستراتيجي، أن
يشرح للجمهور كيف تكون مصر دولة فقيرة، ونحتاج للصبر وتوفير النفقات حتى ننهض، في حين أن المخابرات العامة المصرية تصرف ملايين الدولارات سنويا من أموال المصريين، من أجل الخداع وترويج الكذب في الولايات المتحدة؟ وهل يستطيع أحدهم أن يفسر التناقض في أن تكون إسرائيل عدو مصر والعرب الأول (كما درسنا وتربينا)، وكيف أن السيسي هو الذي سيحرّر القدس ويحمي مصر والأمة من المؤامرات الصهيونية (كما تروج وسائل الإعلام هذه الأيام)، ولكن في الوقت نفسه ليس هناك حرج في أن تطلب الإدارة المصرية، بأجهزتها الأمنية، وساطة إسرائيل لدى الولايات المتحدة (مرات كما نشر في صحف عالمية) من أجل تخفيف الانتقادات، بسبب حقوق الإنسان ومنع قطع المعونة طبقا للقانون الأميركي؟
حال رد الفعل المصري المنزعج من تقليل بعض من المعونة الأميركية، بسبب بعض الانتهاكات الموثقة لحقوق الإنسان في مصر حال شخص سكّير كسول، يعذّب أولاده ويستغلهم ويسرق أموالهم ويكذب عليهم، ويبتز سكان الحارة التي يسكن فيها، ويتسوّل منهم، بحجة المصالح المشتركة. ولكن في الوقت نفسه، يحاول تجميل صورته أمامهم بالصياح طول الوقت أنه لا يقبل الحسنة المشروطة، ولا يقبل أن ينصحه أحد كيف يعامل أولاده أو كيف يدير المعونات التي يتسولها. وفي الوقت نفسه أيضا، يحاول التجمل أمام أولاده بالإيحاء لهم بأن كل الدائنين والمحسنين يتآمرون عليه.
ولكن هذا الشخص الكسول السكّير المتسوّل سيفعل معروفاً كبيراً لنفسه وللآخرين إنْ توقف عن ابتزاز جيرانه، وإنْ توقف عن استغلال أولاده وتعذيبهم، وحاول إدارة حياتهم بشكل رشيد.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017