أميركا تختار اليوم بين هويتين: استقرار "السيستم" أو الغوغاء

08 نوفمبر 2016
احتدام التنافس وتقدّم طفيف لكلينتون وفق الاستطلاعات(ريك ويلكنغ/فرانس برس)
+ الخط -


يُظهر المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة الأميركية عام 2016 جزءاً كبيراً من سمات الديمقراطية الأميركية وهشاشتها في آن. فالاتهامات الجاهزة مسبقاً بتزوير الانتخابات وحوادث العنف الانتخابي المتنقلة والمليشيات اليمينية المسلحة التي تنظّم دورات عسكرية للمجموعات العنصرية المتطرفة في أرياف الجنوب الأميركي، توحي وكأن الأميركيين ذاهبون اليوم إلى حرب أهلية وليس إلى انتخابات ديمقراطية تشهدها البلاد منذ أكثر من مائتي عام.
ويتجه الأميركيون اليوم إلى صناديق الاقتراع للاختيار بين مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، ومرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، وسط استنفار أمني واسع على الأرض وفي الفضاء الإلكتروني الأميركي تحسباً لأعمال عنف انتخابي أو عمل إرهابي قد تنفذه خلايا نائمة تابعة لتنظيم "القاعدة" أو "الدولة الإسلامية" (داعش)، أو خوفاً من قيام "خلايا" إلكترونية تابعة لأجهزة الاستخبارات الروسية بشن هجوم سيبيري على شبكة الإنترنت الأميركية من أجل قرصنة المعلومات وتعطيل الأنظمة الانتخابية والعبث بنتائج الانتخابات وتزويرها. أضف إلى ذلك كله تصاعد في الخطاب العنصري وتهديدات من أنصار ترامب بالثورة المسلحة على السلطات الفيدرالية وتنظيم مسيرات احتجاج مليونية إلى واشنطن في حال فوز كلينتون في انتخابات اليوم.
وبلغ التجييش العنصري في اليومين الماضيين ذروته، وتحوّلت معركة استقطاب الناخبين في ولايات تُعتبر نتائجها حاسمة في تحديد هوية الفائز، مثل كارولينا الشمالية وفلوريدا، إلى سجال عنصري صريح بين الأكثرية من الأميركيين البيض، وبين الأقليات من ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية. إذ يتسلح ترامب بقاعدة شعبية واسعة في أوساط الأميركيين البيض، بينما تحظى كلينتون بدعم ناخبي الأقليات.

كلينتون الأوفر حظاً

ترجّح استطلاعات الرأي العام الأميركي كفة كلينتون وتُظهر تقدّمها الطفيف على ترامب على المستوى الوطني. وتحتاج مرشحة الحزب للفوز بواحدة من الولايات المتأرجحة لتضمن حصولها على 270 صوتاً انتخابياً من أصل 538 مندوباً تنتخبهم الولايات ويشكّلون الهيئة الناخبة التي تختار الرئيس ونائبه. وقد رمى الرئيس الحالي باراك أوباما بكامل ثقله من أجل حث الناخبين السود واللاتينيين على التوجه إلى مراكز الاقتراع والتصويت لصالح كلينتون، بعد أنباء عن تدني نسبة مشاركة الناخبين من أصل أفريقي في كارولينا الشمالية في عمليات الاقتراع المبكر، وبعد تقارير عن منع السلطات الجمهورية الحاكمة في الولاية لأعداد كبيرة من الناخبين السود من الإدلاء بأصواتهم بحجة عدم حصولهم على بطاقة تعريف خاصة، التي تشترط قوانين الولاية أن تكون في حوزة المقترع، على خلاف قوانين الولايات الأخرى حيث يمكن للناخب أن يقترع بواسطة رخصة قيادة السيارة.

احتقان عنصري
شهدت مدينة شارلوت الشهر الماضي مواجهات عنصرية استمرت أياماً بعد مقتل شاب من الأقلية الأفريقية برصاص شرطي أبيض. وشهدت المدينة مواجهات عنيفة بين الشرطة الأميركية وشبان سود من حركة "Black Lives Matter" وناشطين يساريين من المدافعين عن حقوق الأقليات.
وخلال خطاب لها قبل يومين في الولاية، أشارت كلينتون إلى التأييد الذي يحظى به مرشح الحزب الجمهوري من مجموعة "كوك كلوكس كلان" (kuk Klux Klan) العنصرية المتطرفة المعادية للسود وللمهاجرين والمسلمين. ويكفي كلينتون الفوز في كارولينا الشمالية أو فلوريدا لتضمن الوصول إلى البيت الأبيض وتصبح أول امرأة أميركية تُنتخب رئيسة للولايات المتحدة الأميركية. هذا الفوز مرهون بكثافة مشاركة الناخبين السود واللاتين الذين يستهدفهم خطاب ترامب العنصري، لذلك استعانت حملة كلينتون الانتخابية بأوباما وزوجته ميشيل ونائبه جو بايدن. كما أحيا الموسيقي "جاي زي" والمغنية بيونسي حفلاً موسيقياً راقصاً من أجل حث الناخبين من الأجيال الشابة للتصويت لمرشحة الحزب الديمقراطي.


ويؤشر احتدام المنافسة بين المرشحين الجمهوري والديمقراطي وشراسة المعركة بينهما مع تقارب حظوظهما بالفوز، إلى أهمية هذا الاستحقاق الانتخابي بالنسبة للأميركيين والعالم، كونه يحدد مستقبل الولايات المتحدة ونظامها السياسي وصورتها ودورها على الصعيد الدولي. فالمعركة الانتخابية بين كلينتون وترامب هي تعبير مباشر عن تضارب الاتجاهات بين أميركا باراك أوباما المتعددة الثقافات والألوان، المنفتحة سياسياً واقتصادياً على العالم، و"أميركا أولاً" أو "أميركا الرجل الأبيض ذو الأصول الأوروبية" التي يريد دونالد ترامب استعادتها من السود والمهاجرين الجدد.

ترامب: أميركا أولاً
فور وصوله إلى البيت الأبيض، سيباشر ترامب بخطة طوارئ تتضمن سلسلة من القرارات التنفيذية، كإلغاء خطة الإصلاح الصحي المعروفة باسم "أوباما كير"، وترحيل ملايين المهاجرين المقيمين بطريقة غير شرعية في الولايات المتحدة وبناء جدار فاصل على حدود المكسيك لمنع الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات، كما أعلن سابقاً. وأضاف على خطته أخيراً وقف العمل بالبرنامج للذي وضعته إدارة أوباما لاستقبال نحو عشرة آلاف لاجئ سوري.
ويتبنى ترامب خطاب مجموعات اليمين المتطرف تجاه ما يعتبره فساد النظام السياسي الأميركي وسيطرة لوبيات الضغط ومجموعات المصالح الاقتصادية على القرار السياسي في واشنطن. وهو يعتبر أن منافسته هيلاري كلينتون هي إحدى أبرز رموز المؤسسة السياسية الحاكمة في واشنطن، ويرى أن إلحاق الهزيمة بها محطة في مسار تغيير النظام السياسي الأميركي الفاسد. وقد يكون شعار تغيير النظام السياسي الأميركي والثورة على المؤسسات الحاكمة في واشنطن، أو "الاستبلشمنت"، هو الأكثر جذباً لشرائح شعبية واسعة من العمال وأبناء الأرياف الأميركية. وتعتقد هذه الفئات أن ترامب هو الوحيد القادر على تغيير النظام الفاسد ومحاربة الطبقة السياسية التقليدية.
وتطاول شعارات التغيير التي يطرحها ترامب السياسة الخارجية الأميركية ومنظومة التحالفات التي تقيمها الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا والشرق الوسط. وأولى الضحايا قد يكون حلف شمال الأطلسي الذي يعتبره المرشح الجمهوري عبئاً ثقيلاً على الولايات المتحدة. وهو يفضّل في المقابل التحالف مع روسيا فلاديمير بوتين وإيكال مهمة قتال "داعش" في سورية إلى روسيا وحليفها نظام بشار الأسد.
ويشكّل الموقف من الإسلام والمسلمين عنواناً أساسياً في خطاب ترامب وخططه في حال فوزه في الانتخابات، خصوصاً أنه سبق ووعد أنصاره بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة وإخضاع المقيمين منهم في البلاد إلى إجراءات رقابة مشددة. وفي حال لم يتراجع المرشح الجمهوري بعد وصوله إلى البيت الأبيض عن خطابه العنصري ضد المسلمين، وتحميلهم مسؤولية العمليات الإرهابية التي ينفذها تنظيما "داعش" و"القاعدة"، وترسيخ النظرة المسبقة إليهم كمشتبه بهم، فإن علامات استفهام كبيرة تبقى بلا إجابة عن كيفية تنفيذ قرار المنع وتداعيات ذلك على علاقات الولايات المتحدة مع الدول الإسلامية ومع أكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم.
إضافة إلى ذلك، سيغيّر ترامب السياسات الاقتصادية الأميركية ويعيد النظر بالعديد من الاتفاقيات التجارية الدولية التي يعتبرها مسؤولة عن هروب الوظائف ورؤوس الأموال من الولايات المتحدة. وعلى المستوى الاقتصادي، سيعتمد سياسة تخفيض الضرائب على أصحاب الدخل المحدود وعلى أصحاب العمل.

كلينتون: المرأة أولاً
أما التغيير في "أميركا كلينتون"، فسيكون بديهياً، إذ إن مجرد انتخابها رئيسة يعني تغييراً جوهرياً في القيم السياسية الاميركية التي تُعتبر قيماً محافظة تجاه حقوق المرأة ومشاركتها في الحياة السياسية. فالمرأة الأميركية تأخرت عن المرأة الأوروبية في مجال الحريات الشخصية والسياسية وهي لم تكن قبل مئة عام قد نالت بعد حقها بالانتخاب. وعليه، فإن فوز مرشحة الحزب الديمقراطي بانتخابات 2016 سيشكّل محطة تاريخية وإنجازاً كبيراً للمرأة الأميركية، يُتوقع أن ينعكس في السنوات المقبلة بإجراءات وقوانين تعطيها كامل حقوقها الفردية والاقتصادية وتثبّت مساواتها مع الرجل على كافة الصعد.
كذلك سيكون عهد كلينتون في حال فازت في الانتخابات استكمالاً لسياسات وبرامج انطلقت خلال عهد أوباما. وقد أعلنت كلينتون التزامها الكامل بـ"الأجندة اليسارية" في الحزب الديمقراطي التي يمثّلها كل من أوباما والسيناتور بيرني ساندرز الذي أدخل خلال حملة الانتخابات التمهيدية دماءً جديدة إلى الحزب، وخصوصاً من الأجيال الشابة والطلاب. يعني ذلك أن كلينتون قد فكت ارتباطاتها الوطيدة بـ"وول ستريت" لصالح الطبقة المتوسطة والعمال، وهي تعهّدت بفرض ضرائب عالية على أصحاب رؤوس الأموال لدعم خطتها التربوية والأسرية لدعم المرأة والطفل وتأمين تعليم جامعي مجاني. كما ستثبت كلينتون خطة "أوباما كير" للإصلاح الصحي مع إجراء بعض التعديلات عليها بعد الثغرات التي ظهرت فيها خلال السنوات الماضية.

تنافس على خدمة إسرائيل
لن تختلف سياسات كلينتون الخارجية كثيراً عن سياسات أوباماً، وإن كانت تميل أكثر إلى استخدام القوة العسكرية الأميركية. فالاستراتيجيات التي اعتمدها أوباما وُلدت في فترته الرئاسية الأولى عندما كانت كلينتون وزيرة للخارجية الأميركية. ويُعتقد على نطاق واسع أن كلينتون هي المهندسة الفعلية لتلك السياسات، من سياسة الدعم المتفاوت لثورات الربيع العربي في تونس ومصر، إلى التدخّل العسكري الأميركي في ليبيا تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، والتقاعس عن التدخّل في سورية لوقف جرائم بشار الأسد.

كما يُرجّح أنه في عهد كلينتون ستكون العلاقات الأميركية الإسرائيلية أفضل بكثير مما كانت عليه خلال ولايتي أوباما الرئاسيتين، على الرغم من أن المساعدات الأميركية لإسرائيل سجلت أرقاماً قياسية في العهد الماضي. فوزيرة الخارجية الأميركية السابقة تربطها علاقات وطيدة بالمسؤولين الإسرائيليين وتتمتع بدعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.
أما ترامب، وعلى الرغم من أنه يرفع شعار "أميركا أولاً"، إلا أن معايير هذا الشعار لا تنطبق على العلاقة مع إسرائيل. ففي الولايات المتحدة تبقى مصلحة إسرائيل فوق كل اعتبار. وقد قدّم ترامب أوراق اعتماده بالإعلان عن أنه سيقيم تحالفاً غير محدود مع الاحتلال وتعهّد بالاعتراف بالقدس كعاصمة أبدية للدولة اليهودية.

المساهمون