أمثولات من فلسطينيي سورية

27 مارس 2016
مخيم اليرموك في 16 نيسان 2015، تصوير: رامي السيد
+ الخط -

هكذا لن يكون هنالك فرق بين ما يعيشه أهل مخيم اليرموك، أو خان الشيح أو السبينة، وبين ما عاشه آباؤهم أو أجدادهم أيام سقوط الجليل ومدن الساحل الفلسطيني.

على أرض المخيمات، صار الزمن الفلسطيني واحداً، وصارت الذاكرة واقعاً يومياً. جاء ذلك بعد زمن طويل استطاع فيه أبناؤها أن يحولوها إلى أمكنة للانتماء، وأن يعيشوا فيها وكأنها قطعٌ مجتزأة، سيعاد لَحْمُها إلى جسد أمّها يومًا ما.

خلال ذلك تحولت المخيمات إلى أمكنة حيوية تتلاقى فيها مختلف الفعاليات السياسية والثقافية، ولأجل هذا أتيحت فيها هوامش لم تستطع المدينة نفسها أن توفرها، فأخذت تتألق أكثر في خلق انتماء آخر لها يشعره السوريون الذين جربوا العيش فيها.

عندما تحوّلت الثورة السورية إلى حربٍ يقودها نظام الأسد ضد الشعب، إذ بات يضرب في مدن سورية وقراها بالدأب ذاته الذي يضرب فيه المخيمات الفلسطينية؛ كان لافتاً إصرار الباقين من جيل النكبة على الاعتصام بحبل المخيم والبقاء فيه.

كان هناك ما يوحي بعقدة ذنب تتصل بما يمكن أن ندعوه خطيئة أصلية، هي الخروج الأول من فلسطين. تحول المخيم لديهم إلى فلسطين مصغّرة لن يقبلوا أن يتركوها، أو هو فلسطين فعلاً ولن يخرجوا منها إلا مرة واحدة هي المرة التي سيغادرون فيها الحياة نفسها.

يقول رجل ثمانيني مُخرساً أولاده وأحفاده الذين يريدون إخراجه من أحد المخيمات بعد اشتداد القتال: "أنا ميت منذ سبعين سنة، أنا ميت منذ خرجت". هكذا سوف يفهمون أنه إذ لم يكن في استطاعته الحياة في الوطن، فإنه سيختار الموت في المخيم. وسوف يفهمون أكثر أن الخروج موت حين تبعثرهم الأقدار في أصقاع الأرض.

مثله امرأة عجوز تقول لمن يلحون في إقناعها بالمغادرة: "لن أستبدل المخيم بمخيم آخر". هي تعي جيداً أن الخروج خروج أبدي، وأن العودة تتحول مع الوقت إلى حلم لا يطال. مع هؤلاء الناس كانت أرض المخيم تذهب إلى الاكتساء ببعد رمزي ينافس رمزية الأرض الأم نفسها، بينما الحرب المشتعلة تتحول إلى اختبار لهذا الانتماء، أو صانعة له.

في الوقت الذي تشهد فيه مخيمات سورية هجرة كاملة من الشباب، لاعتبارات تتعلق بفقدان الأمل من الواقع وعدم توقف وحشية النظام وأصحاب الرايات السود؛ يفلح الشيوخ والعجائز في حل السؤال الأصعب سؤال الأرض.

ولعلنا هنا نتذكر مشهداً من مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، حيث يقارن الراوي، وهو الأستاذ علي، بينه وبين أخيه الشهيد حسن، الفلاح البسيط الذي اختار الاستشهاد دفاعاً عن فلسطين، فيقول: "ذلك الطفل عرف كيف يحل لغز الأرض وطلاسم الماء. كنتُ أتعلم لغة الكتابة وقواعد النحو حينما كان يتعلم لغة النهر والصخر والسنبلة. كنتُ أمتطي المعجم حين كان يمتطي الريح والعواصف. كنتُ أكتشف الأسئلة حين كان يعيش الأجوبة".

قلب كبار السن في مخيمات سورية المعادلة، فحيث كان "لغز الأرض" متروكاً للشباب ليحلوه بالافتداء كتعبير جذريّ عن الانتماء، ها هم الشيَّبُ يقولون لنا إن التشبث بالوطن يبدأ من التشبث بالبيت والمخيم، وصولاً إلى التشبث بالحياة لا بمغادرتها، إلى الموت أو المنافي على حد سواء.

بين ما سمعته في سنوات القهر السورية، توقفت عند قصة زوجين في آخر العمر أخرجهما أولادهما بالحيلة من مخيم خان الشيح. تقول الحكاية إن العجوزين المليئين بكل أنواع الأمراض، واللذين لا يكادان يستطيعان المشي لقضاء حاجتهما، قرّرا العودة إلى البيت خلسة. انتظرا يوماً كان فيه الأبناء في أعمالهم، فأخذا تاكسي إلى أقرب نقطة ممكنة إلى المخيم، وهناك التفا من وراء حاجز الجيش، ليواصلا المشي على الأقدام في طريق مفخّخ ومقنوص ومهيأ للقصف في أية لحظة.

لم يكن العجوزان يعودان إلى البيت، بمقدار ما كانا يتوكأان على بعضهما البعض، ويسيران صانعين عودتهما المشتهاة إلى فلسطين. تلك أمثولتهما التي جعلتهما سعيدين في حصارهما.

هذه وسواها، بعضٌ من المعاني التي يضيفها فلسطينيو سورية إلى الأرض ويومها في آن.


(كاتب فلسطيني/ برلين)