تشير البيانات الاقتصادية قبيل تفشي وباء كورونا إلى أن الاقتصاد الألماني كان يزحف باتجاه معاكس لطفرة النمو التي حققها على مدى 10 سنوات سابقة، ووفقا لإحصائيات المكتب الاتحادي للإحصاء تراجع لنمو الاقتصادي فى البلاد عام 2019 إلى 6% مقابل 1.5% عام 2018، مما يمثل أدنى معدل في الخمس سنوات الأخيرة. ويأتي التراجع بعد تسجيل الاقتصاد لمعدل نمو 2.2% في عامي 2016 و2017.
وتأتى التراجعات كنتيجة لأسباب منها الأزمة العالمية التى عاني منها قطاع صناعة السيارات، وفرضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، وهو ما بات أقرب إلى الواقع. يضاف إلى ذلك التطورات الأخيرة فى جزيرة هونغ كونغ، حيث بدأت الصين بإطلاق التهديدات صوبها، علاوة على الحرب التجارية الأميركية الصينية.
ثم كانت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا التي أججت من التراجعات، وظهر ذلك جليا فى المؤشرات الكلية للربعين الأول والثانى من العام الحالي، حيث أفادت الإحصاءات الرسمية بتراجع معدل النمو بنسبة 7% فى الربع الأول، و10% فى الربع الثاني، بسبب اجراءات الاغلاق المتبعة فى معظم الانشطة الاقتصادية. وهذا الانكماش هو الأكبر منذ بدء حساب الناتج المحلي الإجمالي الفصلي لألمانيا فى عام 1970، والأكثر حدة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008.
ويعزو هذا التراجع الكبير فى الاقتصاد الألماني إلى تراجع الطلب العالمي وانقطاع سلاسل التوريد واستمرار حالة عدم اليقين لدى المستهلكين والمستثمرين، مما أدى إلى انهيار إنفاق الأسر واستثمارات الشركات وتراجع الصادرات، وهي الأسباب الجوهرية التي كرست حالة الركود التى يمر بها هذا الاقتصاد، بعد ان كانت البلاد تتعافى نسبيا منذ 2019.
كما سجل إنتاج قطاع الصناعات التحويلية، عماد الاقتصاد الألماني، انخفاضا تاريخيا بنسبة 17.9% وتراجعت طلبيات التصنيع بنسبة 25.8% فى الربع الثاني من العام الحالي.
وأعلنت الوكالة الاتحادية للعمل أن عدد العاطلين فى ألمانيا ارتفع خلال شهر يوليو الماضى ليبلغ 2.91 مليون شخص، وأن العدد يزيد على ما تمّ تسجيله في يونيو الماضي بإجمالي 57 ألف شخص، ويزيد على ما تمّ تسجيله قبل عام بإجمالي 635 ألف شخص، كما أن معدل البطالة ارتفع خلال يوليو بنسبة 0.1% ليبلغ 6.3%.
وتشير الاحصاءات كذلك الي انخفاض الصادرات الألمانية في شهر مارس الماضي بنسبة 7.9% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي وبنسبة 11.8% مقارنة بشهر فبراير السابق، وهو ما يعد الانخفاض الأكبر منذ بداية حساب الصادرات الشهرية فى شهر أغسطس فى العام 1990. وتراجعت كذلك الواردات فى مارس بنسبة 4.5% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي وبنسبة 5.1 % مقارنة بالشهر السابق.
وبذلك فإن الأرقام السابقة علاوة على العديد من المؤشرات الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها أدت إلى صدمة واضطراب اقتصادي غير مسبوق، دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية تاريخية، ليس فقط لإيقاف نزيف تلك التداعيات، وإنما لإعادة التنشيط الاقتصادي لمرحلة ما بعد الإغلاق.
ففى يونيو الماضي وافق زعماء أحزاب الائتلاف الحاكم على حزمة تحفيز بقيمة 130 مليار يورو تستهدف تسريع التعافى الاقتصادى، ودعم البلديات المتضررة ماليا بقوة، كما اتفقوا على اشتراك الحكومة الاتحادية والولايات فى تعويض خسائر إيرادات الضرائب التجارية. وستكون هذه الحزمة واحدة من أكبر حزم التحفيز الاقتصادي فى تاريخ البلاد، لاسيما عند مقارنتها بحزمة دعم الاقتصاد المتعثر فى ذروة الأزمة المالية العالمية في 2008 والبالغة نحو 90 مليار يورو.
كما تم الاتفاق على تقديم دعم للأسر المعيلة بقيمة 300 يورو عن كل طفل، وتوفير تمويل إضافي للبلديات لمواجهة تزايد البطالة، واستثمار 28 مليار يورو فى مشروعات البنية التحتية.
وأعلنت الحكومة عن نيتها رفع الاقتراض إلى 218.5 مليار يورو (246 مليار دولار) هذا العام لتمويل خطة التحفيز، مما يرفع نسبة الدين العام الألماني إلى نحو 77% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، أي أعلى بنحو 17% من السقف المحدد بـ60% فى الاتحاد الأوروبي.
وكان التخفيض الضريبي المؤقت عنصرًا رئيسيًا في حزمة التحفيز الحكومية لطلب المستهلكين، حيث اتفق على تخفيض معدل ضريبة القيمة المضافة من 19% إلى 16% لمدة ستة أشهر بدءًا من 1 يوليو الماضي، كما سيتم تخفيض معدل ضريبة القيمة المضافة للأغذية في تجارة المطاعم من 19% إلى 7% فقط.
كما أقرت الدولة إمكانية تأجيل دفع ضرائب الدخل المستحقة على الشركات، بالإضافة إلى الرسوم الإضافية التضامنية، وكذلك التنازل عن تدابير الإنفاذ (مثل الخصم المباشر فى الحسابات المصرفية) وغرامات التأخير في السداد حتى 31 ديسمبر 2020، إذا ثبت أن الشركات تأثرت بأزمة كورونا، وأن تحصيل الضرائب المنتظم سيشكل خطورة كبيرة عليها.
وكانت الحكومة الألمانية قد أعلنت عن خطة إقراض من الدولة مع ضمانات للشركات بقيمة 550 مليار يورو، وستمنح هذه القروض من جانب بنك الائتمان لإعادة الإعمار الحكومي، والذي سبق أن لعب دوراً حاسماً للحد من آثار الأزمة المصرفية والمالية قبل أكثر من 10 سنوات. ويمكن للشركات التى تواجه انخفاضاً في النشاط أو مشاكل فى السيولة الاستفادة من تلك القروض، مثل شركات السفر والسياحة والمطاعم المتضررة أكثر من غيرها.
وبالنسبة لاتفاقيات القروض الاستهلاكية المبرمة قبل 15 مارس 2020، تم تأجيل مطالبات السداد والفوائد المستحقة بين 1 أبريل و30 يونيو 2020 لمدة 3 أشهر من تاريخ استحقاقها، إذا كان المستهلك يعاني من انخفاض في الدخل، مما يجعل الوفاء بالالتزام غير محتمل بالنسبة للمدين، وتحديداً في الحالات التي تكون فيها وسائل المدين المعيشية معرضة للخطر.
وللوقاية من الإعسار المحتمل للشركات كنتيجة لتلك التداعيات، تم تعليق الالتزام بتقديم طلب الإعسار بأثر رجعي من مارس وحتى سبتمبر 2020 للشركات التي تعاني من صعوبات اقتصادية، بشرط أن تكون هناك احتمالات للتعافي المستقبلي من نقص السيولة. وكان قانون الإعسار الألماني ينص على التزامات صارمة للمديرين بإيداع الشركة للإعسار من دون تأخير لا داعي له، وفي موعد لا يتجاوز ثلاثة أسابيع بعد أن تصبح الشركة معسرة.
وكنتيجة مباشرة للقرار أعلن المكتب الاتحادي للإحصاء أن عدد الشركات التي أشهرت إفلاسها في ألمانيا تراجع في مايو الماضي ليبلغ 1504 شركات، بتراجع 9.9% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي.
كما شملت الإجراءات والقرارات الألمانية لمواجهة التداعيات العديد من المؤسسات منها الجمعيات الخيرية، خاصة التي تعمل منها في المجالات الصحية، إضافة إلى المتضررين العاملين فى القطاعات الثقافية مثل دور السينما والمسرح وغيرها، علاوة على حزم مخصصة للشركات التي تعمل في المجالات الابتكارية وريادة الأعمال، وحتى الأفراد الذين يعملون لحسابهم الخاص امتدت القرارات لتشملهم.
وبذلك يمكن وصف الحزم الألمانية لمواجهة التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا بالشمولية، حيث الاستخدام المكثف للسياستين المالية والنقدية، وأدواتهما المختلفة، كما يمكن وصفها كذلك بالعمومية، حيث استهدفت جميع طبقات المجتمع من خلال إجراءاتها الموجهة للأفراد، بالإضافة إلى استهدافها الشركات بكافة أحجامها، علاوة على استهدافها منظمات المجتمع المدني، مع التركيز على المؤسسات العاملة في المجال الصحي، وأخيرا يمكن وصف تلك الحزم بالتوازن من حيث استهدافها لكافة مكونات المجتمع.
الصفات الثلاث للحزم الاقتصادية الألمانية، الشمولية والعمومية والتوازن، تعزز إمكانية تأكيد كونها حزماً متكاملة، ستصب حتماً فى تخفيض التأثيرات السلبية للجائحة على الاقتصاد، وستعمل على الحفاظ على دخول الأفراد والشركات بما يضمن استمرار تدفق الإنفاق الاستهلاكى، وبما يعمل على إعادة دوران العجلة الإنتاجية، مما سيؤدي ليس إلى إيقاف نزيف الخسائر الاقتصادية فحسب، بل ربما التحول إلى الاتجاه التصاعدي فى المستقبل القريب.