أكاديميات لا سينما

10 يونيو 2019
عباس كياروستمي: "هوس" أساتذة لبنانيين (فيسبوك)
+ الخط -
الأكاديميات المعنيّة بتدريس السينما في لبنان كثيرة. معظمها غير صالح لصُنع كفاءات. الاشتغال السينمائي مُحتاجٌ إلى موهبة ورغبة وشغف، قبل التلقين الأكاديمي. التلقين نفسه يستدعي نقاشًا يتناول منهج التعليم، وآلية اشتغاله ومصادره وأساتذته. التدريس خطوة لاحقة، مطلوبة وضرورية، في زمن التقنيات الحديثة، سريعة التطوّر. غياب الموهبة والرغبة والشغف كارثيّ، إلا في حالة الإنتاج التجاري الاستهلاكي، رغم أنّ إنتاجًا كهذا محتاجٌ بدوره إلى معرفةٍ بأصول المهنة، على الأقلّ.

الأكاديميات السينمائية تلك، وبعضها يختار اسم "السمعي ـ البصري"، غير متمكّنة لوحدها من "إنتاج" سينمائيين جدد، يتخصّصون بالمجالات السينمائية المختلفة، لكن بعضهم القليل يبرع في ممارسة المهنة، فنًّا وجماليات ومعالجة وسجالات وتقنيات. الاختصاص أساسيّ. التقنيات إحدى أبرز أدوات الصناعة السينمائية. هناك طلّاب يبرعون في اختصاصاتهم، وينجحون في ممارسة المهنة، لكن عدد المبتكرين والفنانين والسينمائيين قليلٌ، بينما الوفرة محصورة بالمهنيين، أي بأولئك المتمكّنين من تنفيذ المطلوب.

هذا حاضرٌ في مجتمعات أخرى أيضًا. لكن الفرق كامنٌ في أن تلك المجتمعات، وبعضها يتبوّأ مراتب أولى في صناعة السينما في العالم، غير مُحتاج إلى تلك الكثرة، فمعهد (جامعة، أكاديمية، مدرسة) واحد كافٍ، غالبًا، لتدريسٍ مهنيّ احترافيّ، والباقي يتبلور بالمُمارسة العمليّة.

التدريس الأكاديميّ مطلوب. لكن المأزق الفعلي كامنٌ في كثرة الأكاديميات، في بلدٍ مُعطّل كلبنان. المشهد مرتبك: سينمائيون عديدون يُنجزون تُحفًا سينمائية وأفلامًا مهمّة، يأتون من دراسة تتكامل مع موهبةٍ ورغبةٍ وشغف، وبعضهم بارع من دون دراسة، كحال سينمائيين عديدين في العالم. كثيرون يتخرّجون في أكاديميات وجامعات، لكن قلّة منهم تمتلك وعيًا وثقافة وحساسية وموهبة (يُفترض بها أنْ تُصبح احترافًا) ورغبة وشغفًا. قلّة تواجه صعوبات وتحدّيات جمّة، كي تبدأ مسارًا سينمائيًا، وأحيانًا تنصرف إلى أعمالٍ ومهن غير سينمائية، تلبية لمتطلبات العيش.

الكثرة مُصيبة. محتاجة هي إلى وفرة أساتذة، ما يُؤدّي إلى مُصيبة أخرى: ما هي آليات التدريس ومناهجه؟ ما هي الكفاءات التعليمية لمُدرِّسين كثيرين؟ وماذا عن مضامين المناهج المعتَمَدة؟ هذا لن يحجب أساتذة هم سينمائيون أصلًا، لهم تجارب واختبارات ووعي وثقافة، تبدأ كلّها بالسينمائيّ، وتمتدّ إلى أشكالٍ مختلفة للمعرفة. كثرة الأكاديميات تحتاج إلى وفرة أساتذة، والوفرة في بلدٍ معطَّل كلبنان تطرح سؤال كفاءة التعليم. المأزق الأكبر كامنٌ في اعتماد أساتذة، وبعضهم مديرو أكاديميات وجامعات، معايير متزمّتة ومنغلقة، في التواصل مع طلابٍ يرون السينما فنًّا لا حدود له، وعينًا تكشف وتُعرّي وتبوح وتعكس واقعًا أو انفعالاً أو حياة أو مسلكًا أو ثقافة، من دون رادع.

تساؤلات كهذه مشروعة، وإنْ يتطلّب التنقيب فيها نقاشًا أوسع وأعمق. تساؤلات لن تُغيِّب مآزق تُنتجها كثرة الأكاديميات والمدارس والمعاهد، بما تعنيه الكثرة من حاجة إلى أساتذة، معظمهم غير متمكّن من تدريس يليق بالسينما وفنونها وحرياتها وجمالياتها واقتصادها وثقافتها وتقنيّاتها. أساتذة "يتباهون" بمعرفة سينمائية عميقة، لكنهم يعتبرون أن سيناريوهات عباس كياروستمي مثلاً هي القاعدة الوحيدة للكتابة السينمائية، متغاضين عن أساليب ومفاهيم ومقاربات، مستلّة كلها من ثقافات وحضارات وأفكارٍ متنوّعة.

المأزق الأكاديمي اللبناني منبثق من مآزق مختلفة يُعانيها البلد. الاهتراء لا يُحتَمَل. الفلتان أيضًا. مع هذا، هناك طلّاب قليلون يمتلكون الحساسية المطلوبة لبدء خطوات الابتكار والاشتغالات السينمائية، ويغوصون في أحوال الفن السابع وصناعته، ويُتقنون تعاملًا جماليًا مع الكاميرا وأدوات المهنة، ويصنعون صُورًا باهرة ومؤثّرة وجميلة. هناك أيضًا أساتذة قليلون يُحرّضون طلابًا، يمتلكون تلك الحساسية، على الذهاب بعيدًا في تأمّلاتهم وانفعالاتهم، ويُتيحون لهم فرصة التنبّه إلى ما في دواخلهم من غليان ورغبات وتطلّعات، ويُدركون أن السينما لا تُلقَّن، وأن "التدريس" تواصلٌ ونقاشٌ، وأنّ التزامًا أعمى بقواعد ثابتة وجامدة تدميرٌ وتجهيلٌ، وأنّ الوعي والمعرفة والثقافة نتاجُ حوار دائم بينهم وبين طلّاب يمتلكون حساسية السينما، ولديهم موهبة قابلة للتحوّل إلى حِرفية، تساهم الرغبة والشغف في صنعها.

هذه حال الجامعات اللبنانية بشكلٍ عام. هذه حال بلدٍ واجتماع وثقافة وشعبٍ أيضًا.
المساهمون