أقلام تكتب لقارئ واحد

03 مايو 2017
+ الخط -
في كتابه "السادات وهيكل وموسى"، ينقل الكاتب، حنفي المحلاوي، روايةً معبرة، تقول إن الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، قال لكبير صحافيي مصر خلال نصف قرن ويزيد، محمد حسنين هيكل، في الفترة التي شهدت تصاعد خلافٍ بينهما: "تفتكر إن الناس في مصر هيفضلو لفترة طويلة يقرأوا لصحفي واحد فقط؟ (يقصد هيكل) المفروض أن ده وضع لازم يتغير فوراً"، ليرد عليه هيكل: "إذا كان كلامك ده حقيقي، يا ريس، فهذا وضع أحسن مما هو حادث الآن، وهو إن كل الصحافيين في مصر الآن يكتبون لقارئ واحد". وهذه إجابة ذكية في الآن نفسه، من صحافي عاش قريباً من السلطة وبعيداً عنها، وجرّب نعيم القصور ومحن السجن، وترك بصمات إيجابية وسلبية في تاريخ الصحافة العربية المنكوبة.
هناك صحافيون في العالم العربي يكتبون لقارئ واحد، هو الحاكم، أو السلطة، أو توجّه الدولة، أو الطرف الرابح، وهمّهم الأول رضى هذا القارئ الخاص. الباقي لا يهم.
كانت الصحافة، ومنذ نشأتها، قريبةً من السياسة، لكنها في التجارب العريقة عرفت كيف تخرج من بيت طاعة السلطة، واهتدت إلى طريقٍ صارت معه محامي الدفاع عن الإصلاحات الديمقراطية، وعن الشفافية، وعن دولة القانون، وعن حق المواطن في الوصول إلى المعلومات، ما يساعد المجتمع على تشكيل رأي مستقل تجاه الحكومات والسياسات العمومية (فرأي أي مواطنٍ يُقاس بنوع المعلومات الصحيحة التي لديه، والعكس صحيح). لكن، في الدول المتخلفة، مثل دولنا، لم تنل الصحافة استقلاليتها في غالب الأحيان، وبقيت تحت سلطة الكفيل. ومع مرور الوقت، ولد صحافيون "مخصيون" في رحاب صحافة مسيّجة، عقلها مكبّل، وخيالها محدود، وأصبح هؤلاء الصحافيون ليس فقط يلحسون حذاء الحاكم كل صباح، ويبرّرون قراراته كل مساء، ويشاركون في كل حروبه من دون مسافةٍ تتطلبها أعراف المهنة، بل صاروا مجنّدين في انكشارية متحفزة لمحاربة "زملائهم" الذين اختاروا أن يؤدّوا مهنتهم بتجرّد ومهنية واستقلالية، ولو نسبية، ما يسمح به جوٌّ يتنفس الرقابة، ومناخ اقتصادي يلعب دور الرقيب الناعم على خطوط التحرير في كل الصحف والإذاعات والفضائيات العربية .
لا تعاني الصحافة الجادة في بلادنا فقط الأعطاب التقليدية التي تعانيها جل الصحف في العالم، من ضيق سوق القراءة، إلى ضعف مردودية الإعلانات، إلى المنافسة الشرسة للوسائط الجديدة للاتصال، بل تعاني صحافتنا العربية في الداخل والخارج عطباً أخطر، هو غياب المنافسة في المشهد الصحافي، والافتقار إلى التعدّدية في الخطوط التحريرية.
صارت أجهزة الأمن والمخابرات الناشر رقم واحد في جل الدول العربية، والذي يخرج عن سلطة هذه الأجهزة التي تضخّمت في البيت العربي، يقوم به جهاز الرقابة الذاتية، حيث جل الصحافيين العرب يضعون جهازاً للرقابة في مكاتبهم، تحسبًا لمهنةٍ خطرةٍ لا توجد شركة تأمين واحدة، تقبل أن تمنحها بوليصة لتغطية المخاطر الناتجة عنها، في بلادٍ تعجز فيها الصحافة أن تصير سلطةً، وتتجرأ السلطة على أن تتحول إلى صحافةٍ تنشر التضليل، والكراهية، وتشغل الناس بموضوعات وقضايا تشتت الاهتمام، حتى أضحى صحافيو الدولة يفتخرون بالانتساب إلى صحافة الأجهزة، ويعتبرون أنفسهم في مهمةٍ مقدسةٍ لحماية الوطن.
كان الملك الراحل الحسن الثاني يتهكّم على صحافة المعارضة في بلاده التي كانت لسعاتها تؤلمه، فيقول: "ليس في صحف المعارضة سوى معلومتين صحيحتين.. ثمن بيعها وتاريخ صدورها". أصبحت هذه المقولة، اليوم، أقرب إلى الحقيقة بالنسبة إلى "قفةٍ" من الصحف والمواقع والمجلات والإذاعات والتلفزات، لكن الذي تغير أنها ليست محسوبةً على المعارضة، إنها الأقلام التي تكتب لقارئ واحد.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.