أفلام برليناله 2015: لمن تروى الحكاية؟

17 فبراير 2015
لقطة من "ملكة الصحراء" لـ فيرنر هيرتزوغ
+ الخط -

نحو 400 فيلم، من أكثر من مئة دولة، شاركت في الدورة الـ 65 من "مهرجان برلين السينمائي الدولي"، التي اختتمت أول أمس بفوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة "الدب الذهبي" عن فيلمه "تاكسي"، الذي نافس في المسابقة الرئيسية إلى جانب 19 فيلماً.

وكما جرت العادة، ذهب اهتمام معظم النقاد والصحافيين، بعد نشر برنامج المهرجان، إلى تلك الأسماء اللامعة في عالم السينما، التي ستعرض أفلامها الجديدة في المسابقة الرئيسية أو الدورة؛ مثل فيم فيندر ومارغاريت فون تروتا وبيتر غريناواي وباتريشيو غوزسمان وتيرنس ماليك وأوليفر هيرشبيجل.

افتُتحت الدورة بالفيلم الإسباني "لا أحد يريد الليل" للمخرجة إيزابيل كويكسيت، الذي تؤدّي دور البطولة فيه الممثلة الفرنسية جولييت بينوش، وتدور أحداثه في غرينلاند في القطب الشمالي عام 1909. يروي الفيلم قصة حب امرأتين لرجل واحد، وهو مغامر ومستكشف؛ فضّل العيش وسط الثلوج القطبية على حياة الرفاهية في مدريد.

وضمن دورة "منتدى السينما الجديدة"، عُرض "قصة يهوذا" لمخرجه الجزائري رباح عمير- زيميش، ذو الموضوع الديني المثير للجدل. يسرد الفيلم حكاية يهوذا والمسيح وفق تأويل حديث يبيّن علاقة صداقة حميمة بينهما، تكون نتيجتها تقديم يهوذا حياتَه فداءً للسيد المسيح، بعد أن حماه من أعدائه اليهود والرومان.

يتبنّى العمل رواية تتناقض دينياً مع مفهوم الكنيسة الأرثوذكسية، مُظهراً قصة خيانة يهوذا للمسيح على أنها حكاية ملفّقة، ومصدرها نصّ ديني حاقد هدفه الانتقام من المسيح الذي تمرّد على الرومان ودعا إلى الثورة والإصلاح.

يراوح الفيلم من حيث الأسلوب بين الأماكن الصحراوية من جهة، ومَسْرحَة المشاهد التمثيلية من جهة أخرى، سارداً الحكاية بشكلٍ تقليدي، من دون أن يكون معنياً بكيفية تمثيلها مرئيّاً، مع أن حضور الصحراء شكّل عنصراً بصرياً أخّاذاً.

تأتي إشكالية التاريخ من سردٍ يُخفي مرجعية ما يريد المخرج توكيده، ولا ينجح في تمريره إلى من يريد أن يقنعهم بحكايته؛ لأن السؤال هو: لمن تروى الحكاية الراهنة وكيف يمكن أن تكون حقّاً مقنعة لمن يشاهدها؟

ومن الأعمال البارزة التي شاهدناها في المهرجان، فيلم "قاع اللؤلؤ"، العمل التسجيلي السابع لمخرجه التشيلي باتريشيو غوزسمان. هاجر غوزسمان من بلاده بعد انقلاب بينوشيه العسكري عام 1973 على حكومة الليندي وعاش في كوبا وإسبانيا، ثم استقر في فرنسا.

في الفيلم، يتأمّل المخرج ويحلل تاريخ الهنود السكان الأصليين في تشيلي قبل اكتشاف أوروبا لها، راسماً علاقتهم المعيشية والروحية بالمياه، لتبدو كما لو أنها هي البطل الدرامي التاريخي لهذه البلاد العريقة. ويضيف، كوثيقة، صوراً نادرة عن أكبر حرب إبادة حصلت للهنود؛ السكّان الأصليين.

يصل الفيلم إلى مذابح ديكتاتورية بينوشيه التي استمرت 16 سنة، ويربط بينها وبين إبادة السكان الأصليين. من هذه المذابح، إلقاء أكثر من ألف شخص من الطائرات في قلب المحيط، مع ربط كل منهم بقطعة طويلة من الحديد ليظلّوا في القاع. لكنّ المياه "تحنط" ضحايا المجزرة، وتكشف جرائم فاعليها؛ ليظهر أن ما بقي هو أزرار ملابس القتلى.

إن كان "قاع اللؤلؤ" يتحدّث عن المياه كفضاء تاريخي – سياسي، يرتبط بحياة البشر ومصائرهم، فإن فيلم المخرج الألماني فيرنر هيرتزوغ، "ملكة الصحراء"، يجعل من المساحات الرملية الشاسعة فضاءً تاريخياً لعمله، مسلّطاً الضوء على دورها في حياة البدو وتحالفهم مع بريطانيا للتخلّص من الإمبراطورية العثمانية.

بعد توقف عن الإخراج دام ست سنوات، عاد هيرتزوغ بهذا الفيلم، الذي حاول فيه تجنُّب مقاربة عمل دافيد لين، "لورنس العرب"، لكنّه لم ينجُ منه تماماً. فذهب "ملكة الصحراء"، سياسيّاً، بنفس مسار "لورنس العرب"، من خلال تركيزه على اجتماعٍ أقيم برئاسة تشرشل للتشاور حول سبل التعرّف إلى معلومات عن المنطقة العربية الخاضعة للسلطنة العثمانية؛ ليؤكد فيه بعض العارفين أهمية التعاون مع المكتشفة غيرترود بيل التي قضت سنوات طويلة من عمرها تعيش في الصحراء وتدون يومياتها عن حياة البدو العرب.

ورغم أنها مغامِرة وكاتبة ومصورة ومكتشفة، إلا أن الفيلم لا يقترب من دورها كعضو في الاستخبارات البريطانية ولا عن نشاطها في سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط بحيث لقّبت بـ"السيدة لورنس العرب".

يتناول الفيلم بالدرجة الأولى حكاية حبّها لرجلين؛ أولهما الشاب هنري كودوغان، الملحق الثقافي في السفارة البريطانية في إيران، وانتهت القصة بانتحاره. من هنا، يتقرّر مصيرها ورحلتها الصحراوية وانصرافها إلى معرفة حياة البدو. وثانيهما هو الرائد المتزوج غارلس دوتي وايلي، القنصل في السفارة البريطانية في دمشق.

من الأفلام اللافتة أيضاً، "45 سنة"، للمخرج الإنجليزي أندريو هاي. يبدأ الفيلم بالزوجة كيت وهي تحضّر لعيد ميلاد زواجها الخامس والأربعين من جيف ميرسر، الذي يستلم رسالة من السويد، يُطلب منه فيها أن يحضر ليتعرف إلى هوية جثة صديقته السابقة كاتيا التي توفيت في حادث في سويسرا قبل خمسين سنة؛ وعُثر الآن على الجثة تحت الجليد.

تفتح الرسالة باب الفضول أمام الزوجة وتخلق حالة من التوتر الذي يعكّر صفو حياتهما، ويتصاعد بهما الأمر تدريجياً وصولاً إلى يوم الاحتفال. ويبدو في الختام أن حياة كيت مع جيف كانت سراباً.

أما الفيلم الحائز على جائزة "الدب الذهبي"، "تاكسي"، فصوره المخرج جعفر بناهي سراً بتجهيز ثلاث كاميرات مخفية في سيارة أجرة، ليبدو وكأنه فيلما تسجيلياً؛ لكنّه أيضاً فيلم تمثيلي.

يبين الفيلم صعوبات حياة ركّاب مختلفين في مدينة طهران، راسماً لهم صورة تتعارض مع الصورة الرسمية الدعائية. يصف الناقد أمير العمري العمل بأنّه "صُوِّر سرّاً بشكل علني". أما الذين توقّعوا فوزه بالجائزة الأولى؛ فقد ارتكزوا في ذلك إلى مواقف المخرج السياسية (منعته السلطات الإيرانية من ممارسة الإخراج لمدة عشرين عاماً)، لا إلى قيمة الفيلم الفنية.


* مخرج وناقد سينمائي مقيم في برلين

المساهمون