أفكار حول سيكولوجية "فيسبوك"

25 يونيو 2015
مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر في المستخدم بعمق (Getty)
+ الخط -

تسبق التحولات الكبيرة التي تحدث في حركة الأمم والشعوب تغيّرات في عمق عالم أفكارها وبنية مبادئها وقيمها الثابتة المنغرسة في وجدان أبنائها، فلا يمكننا الحديث عن التحول الكبير في أبناء القبائل العربية المتصارعة التي كانت تعيش على هامش الحضارة قبيل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الإشارة إلى التغيّرات التي حدثت على مستوى العقائد والأفكار مع أول كلمة نزلت في القرآن الكريم "اقرأ"، إذ التركيز على بناء المعرفة بالخالق والكون والنفس الإنسانية والعلاقات الاجتماعية في نسيج معرفي متكامل كان يتلى آناء الليل وأطراف النهار ويتعبد به، ثم بالانتقال إلى الثورة الفرنسية يلاحظ أن وسائل النشر في ذلك الوقت المتمثلة في الصحف ساهمت في خلخلة منظومة الأفكار والمبادئ والتصورات المرهقة لدى الشعوب الأوروبية، وأدت في النهاية إلى التغيّرات السياسية العظيمة التي تداعت كما تتدعى أحجار الدومينو.

وإن وسائل تبادل المعلومات تطورت منذ تلك الحقب التاريخية وقفزت بشكل مذهل حتى وصلنا اليوم إلى عصر مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا يعني تدفقاً غير متناهٍ من الأفكار يصعب احتواؤه أو السيطرة عليه، وربما أكثر من ذلك ما حدث من تغيّرات في النسق الاجتماعي أوجده الواقع الافتراضي حيث باتت وسائل التكونولوجيا تؤثر بشكل تبادلي مع مستخدمها، ولعل حديثاً عابراً عن ثورات العرب لا يمكن أن يغفل أثر تلك المواقع في إشعال جذوة التغيير في نفوس الشباب العربي.


ومع ذلك تبقى الأدبيات التي حاولت استكناه العلاقة بين مواقع التواصل الاجتماعي والمستخدمين قليلة، وإن أوردت بعض المصادر أفكاراً متناثرة تحتاج من يلتقطها ويعيد صياغتها، ومن هنا كانت هذه المحاولة المبدئية جزءاً من هذا الفهم، وإن بشكل ميسّر كما في الأسطر الآتية:

المظاهرات الافتراضية

الجمهور النفسي كما وصفه غوستاف لوبون مجموعة من اﻷشخاص المندمجين في روح جماعية واحدة، حيث تنطمس شخصياتهم وسماتهم الفردية مهما تباينت أصولهم وهوياتهم وتعليمهم، فيتحولون إلى مركب آخر جديد، أبرز مميزات الجمهور النفسي ضعف المحاجات العقلية وقوة العاطفة ومضاعفتها، ويتحكم بهم محركو الجمهور أو محرضوه.

والفيسبوك بالرغم من مجاله الافتراضي إلا أن المبحرين فيه يمكن أن يتحولوا إلى جمهور نفسي تنتقل اﻷفكار بينهم بالعدوى، وتضعف تقيماتهم وأحكامهم العقلية وتتضاعف عواطفهم البسيطة الساذجة، مما يؤدي لتحولهم إلى أمواج تسونامي لا تبقي ولا تذر، من مظاهر هذا الجمهور تناقل نفس اﻷفكار والشعارات والصور الشخصية.
ويمكن بكل سهولة أن تنتقل هذه التأثيرات إلى العالم الواقعي كما حصل في الثورات العربية.

العواطف الافتراضية!

أحد المظاهر العامة لعصرنا الحالي هي تضخيم العواطف وتفجّرها وطغيانها، ساهم بذلك الإعلام المرئي عبر مبالغاته المشهدية، ولئن كان التفاعل من جانب اﻹعلام المرئي أحادي الجانب، فإن مواقع التواصل الاجتماعي ساهمت في رفع مستوى تفجر العواطف وصبيانيتها لدى جمهور المستخدمين، خصوصا أن التفاعل متبادل بين المرسل والمستقبل.

نحن مطالبون بضبط النفس والتحكم في العواطف أو عدم المسارعة في التعبير عنها؛ ﻷن ذلك دليل على خفة الشخص وضعف الاتزان. ولنتذكر أننا لسنا مركز الكون ولا حجر الزاوية لكل من يعرفنا!

العُري الافتراضي!

مواقع التواصل الاجتماعي تؤثر في المستخدم بعمق، وتصير مع كثرة الانغماس جزءاً من سمات شخصيته ونمط تفاعلاته، فيتحول مع الوقت إلى الاستعراضية، وبالتالي الانكشاف في عواطفه وتفاصيل حياته اليومية الخاصة، واﻷسوأ أن تقديره لذاته مرتبط طردياً بحجم انفضاحه عبر "اللايكات" التي يحصدها!

لهذا نلمح كثيراً مراهقة طاغية غير مرتبطة بمرحلة عمرية محددة، فثمة مراهقون تخطوا عقدهم الثاني والثالث والرابع يعبّرون بسذاجة وانفتاح مبالغ فيه عن كل ما يخالجهم من انطباعات أو مواقف أو أحداث.

نحن مطالبون أن نفكر ملياً قبل كتابة أي شيء ونشره، ثم انتظار أن تنهال "اللايكات" لتعزز من ثقتنا بأنفسنا وتقديرنا لذواتنا.
قوتنا تنبع من دواخلنا وليس عبر استجداء الاهتمام وتقدير اﻵخرين.

الغرابة الافتراضية!

لا شيء مميز في نقل خبر عادي أو صورة تقليدية، لهذا يلجأ متصفحو موقع الفيسبوك إلى البحث عن كل غريب عجيب أو صادم أو غير تقليدي من أجل الحصول على الاهتمام عبر "اللايكات" والتعليقات، ومحاولة تسجيل "السبق الصحافي" الذي بات أحد الاضطرابات المنتشرة بين جمهور المستخدمين.
والمحصلة أن تكنولوجيا التواصل الافتراضي تعيد صياغتنا.

النرجسية الافتراضية!

يمكن ﻹنسان العالم الافتراضي إنشاء أكثر من شخصية واحدة عبر حسابات متعددة، بل يمكنه أن ينشئ شخصية جنسية مغايرة كأن يكون شاباً وجنس حسابه أنثى، أو أنثى وجنس حسابها ذكر، ويتقمص كل تلك الشخصيات المنوّعة مما يساهم في تفكيك هويته الاجتماعية، فيصير مع الوقت إنساناً بلا هوية، ولا بد أن ينعكس ذلك على الواقع، وهذا ما يعزز الاضطراب ويولد اﻹنسان القلق المشتّت.

ﻷن الفيسبوك واقع افتراضي يعزز من استعراضية اﻹنسان لنفسه ويجعله يظن أن صفحته الممثلة لشخصه محور الكون؛ فإن ذلك يقوي نزعة النرجسية، أي انشغال المرء بذاته وإعجابه بها ذلك اﻹعجاب الذي يقوده إلى الافتتان بنفسه والعمى عن كل ما سواها.

لهذا يلجأ إنسان الفيسبوك إلى التوهّج والتألق في كل تفاصيل حياته التي يعرضها على الملأ على هيئة صور ومنشورات وتعليقات، فهو القارئ الشغوف، والباحث العميق، والمتأمل الرومنسي، والمحلل الفذّ، والمؤمن الصادق، والعفيف الطاهر، والحكيم الجليل، وصديق أو مرافق العظماء من مشاهير التقاهم صدفة ربما!
إنها عقدة اﻷنا، وعقيدة اﻷنا، ومبدأ اﻷنا.. أنا أنا ولا أحد سواي!

وتغيب السلبيات والمثالب والتجارب الفاشلة عن صورة اﻷنا النرجسية، والمثير في الموضوع أن هذه النرجسية باتت جزءاً أساسياً متغلغلاً في إنسان الفيسبوك.

الحاجات الافتراضية!

من أشهر نظريات علم النفس المستخدمة بقوة في التسويق هرم ماسلو للحاجات، والذي يبدأ عادة بالحاجات الفسيولوجية، ثم حاجات اﻷمان، ثم الحاجات الاجتماعية، ثم الحاجة للتقدير، وأخيراً تحقيق الذات.

ولعل ظهور الواقع الافتراضي في بداية اﻷلفية الجديدة أعاد صياغة الحاجات لمرتاديه، فباتت الحاجات الفيسبوكية رديفاً للفسيولوجية، إذ إن الفرد تتنغص حياته وربما يفقد شهيته للأكل وبات يشعر بغياب اﻷمان الاجتماعي؛ ﻷن أحداً لم يعلق على منشوراته أو لم يكبس قبضة "اللايك"!

وهذا اﻷمر يمكن إثباته من خلال حالات كثيرة لساخطين على من يسمونهم "الأموات" الذين لا يتفاعلون معهم!

شيزوفرينيا افتراضية!

في العالم الواقعي من يمتلك شخصيتان مختلفتان؛ إحداهما سوية متزنة واﻷخرى منحرفة هوجاء يوصف بالمرض النفسي ويقال عنه مصاب بانفصام الشخصية "الشيزوفرينيا"، لهذا يستر الفرد عيوبه ونزواته وربما أخفى آراءه الشخصية خوفاً من الاتهام بالخروج على المثل العليا الحاكمة في المجتمع.

وهذا ما تجاوزه العالم الافتراضي حينما أتاح للمستخدم ابتكار شخصية وهمية اعتبارية لا يعرفها أحد لكنها تعبر بقوة عن شخصه الحقيقي من دون مساحيق تجميل أو اعتبارات اجتماعية، حيث يغيب الخوف من الانفضاح أو التصادم مع معايير العيب والخطأ، فتجد غياباً للذوق العام عند النقاش وهجوماً لاذعاً على اﻵخرين مستخدماً فيه أبشع اﻷلفاظ وأشنع الاتهامات، هذا بخلاف البحث عن إشباع النزوات الجنسية والعاطفية من دون رادع.

وهذا التناقض العجيب بين عالم الواقع والعالم الافتراضي المتمثل في التباين الكبير بين الظاهر والباطن أو المظهر والجوهر يتعزّز أكثر عند غياب الوازع اﻷخلاقي وضعف سلطة الضمير.

ولهذا فإن الكتابة بالاسم الحقيقي تمثل نوعاً من صمام اﻷمان الشخصي الذي يبقي اﻹنسان عند مستوى هامش أمان ضابط من الانفلات في التعليقات واﻹساءة إلى الغير، إلا أن هذا اﻷمر قد يؤدي إلى محاولة الفرد أن يظهر بمظهر الحكيم المتزن الصالح؛ أي يتحول الواقع الافتراضي إلى عالم شبيه بالحقيقي بشكله السلبي. وهذا ما يجب أن يتم تداركه من خلال تعزيز القدرة على التعبير عن النفس، وقبول اﻵخر، وامتلاك أبسط بديهيات الحوار الشفاف.

الرياء الافتراضي

في الوجدان المسلم ثمة مفهوم سلبي يسمى "الرياء"، وهو مرتبط بالعبادة حينما يقوم بها الفرد لا من أجل مرضاة الله وآداء فرائضه بل من أجل التفاخر أمام الناس وادعاء التديّن. هناك نوع آخر من "الرياء" يبدو أنه بات سمة العصر الذي نعيشه لكن لا نتحسّس منه بسبب عدم ارتباطه بالعبادة، ولكنه مرتبط بالاستهلاك وتحول المادة إلى غاية بحد ذاتها، فنحن اليوم ندور في فلك اﻷشياء ونقيم أنفسنا وغيرنا بالسلع والمنتجات التي يملكها أو تملكه إن صح التعبير، لهذا نتفاخر بهواتفنا، وأجهزتنا المحمولة، وسياراتنا، وبيوتنا، وأثاثنا..

وانتقل التفاخر والرياء إلى المجالات الثقافية فتفاخرنا بزيارة معارض الكتب والمكتبات، وتفاخرنا بعدد الكتب التي نملكها، وعدد الصفحات التي نقرأها.. أكثر من ذلك نتفاخر بأننا ربما التقينا أثناء سيرنا بمفكر أو مثقف أو داعية مشهور! إن الرياء بشكله الشرعي معصية، وبشكله الاجتماعي آفة، وعلى كل حال صدق من قال: إنما يتعثر من لم يخلص!

(البحرين)

دلالات
المساهمون