أغاني الشتاء

12 يناير 2015
لن يكون المطر ليركض العشاق تحته
+ الخط -
بشكل عام، تكاد الأغنيات والقصائد التي تتناول المطر تحديداً أن تحميه بمظلّة رومانسية وروح إيجابية. وفي معظم الثقافات المطر رمز الخير والمحاصيل الناجحة والسنوات الطيّبة عكس الجفاف وتوابعه ومآسيه.

في أرشيف الغناء العربي الكثير من هذا، تحديداً الشامي، وليس دقيقاً أنّ علاقة المطر بأغنيات الحبّ امتياز أوروبي، فقد واكب المطرُ الأدب والفنون الأوروبية لأنّه ببساطة الموسم الأطول في العام، ولا يكاد نصّ غنائي يخلو من مفردات الشتاء كالبرد والغيوم والمطر والعواصف.

ولكنّ العرب، المتوزّعين على مساحات شاسعة جرداء وقاحلة بين صحارى شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية، لم ينتظروا أحداً ليبرز لهم الخيوط السرية وتلك المعلنة التي تربط المطر بالحبّ وأحواله وأحوال المحبّين أيضاً.

كتب الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب في ستينيات القرن الماضي قصيدة "أنشودة المطر" لتصبح أحد أشهر أناشيد المطر العربية، وقد لحّنت وغنّيت لاحقاً، ويحلو لنا أن نتخيل أن الشاعر كتبها من وحي أمطار البصرة، التي يعرف عنها لطفها وبعدها عن الثلوج. وقد لاحق السيّاب في شعره إيقاع المطر المتهادي والرقيق، ولا يبدو أنّ أمطار العواصف كانت في باله قط.

في مصر نادرة أغنيات المطر، وهو إذ يحضر، يكون ذلك لإشعال نار الذكريات وبثّ الشوق، كما في أغنية لعلي الحجار: "لما الشتا يدقّ البيبان ألقاني باشتقلك ساعات واحتاجلك ساعات"... بينما يحضر بقوة مشهد النيل الذي يعوّض المصريين عن الأمطار.

إذا اقتربنا من سواحل المتوسط الشرقية، حضرت الأمطار والشتاء والليالي الباردة بقوّة.
كان للمدرسة الرحبانية دور كبير في إشباع مخزون الغناء العربي وريّه بالكثير من أمطار جبال لبنان وثلوجه في الكثير من أغنيات تغنّت بها فيروز مثل "شتي يا دنيي" و"حبيتك بالصيف وحبيتك بالشتي" و"قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس وتشتّي الدنيي ويحملو شمسية".

ولكن هذا المطر القاسي وهذه الأمواج العاتية والعاصفة المدمّرة، أياً كان اسمها، ليست في قاموسنا الغنائي ولن تكون، بعد أرواح الأطفال التي حصدتها، وتلك المآسي التي خلّفتها في خيامٍ يكاد العراء يكون أرحم منها. أتصوّر أن نكهة تلك الأغنيات القديمة الجميلة في طريقها إلى الزوال، وأنّ ذكراها الرومنسية ستتحول للنقيض.

في المستقبل القريب، الذي سيصنعه أطفال اليوم، لن يكون المطر ليركض العشاق تحته، أو ليروي المحاصيل، ولن يكون البرد لتشعل مدفأة وتراقبها أنت وحبيبك، الشتاء القاسي بعواصفه الظالمة سيستمرّ بالمرور بنا وسيضعضع خيالاتنا كما أنّه سيصعقنا بصور الجثث المتجمّدة برداً وانعدام رأفة.

أما إطلاق أسماء أنثوية على العواصف، فليس، على الأرجح، انتقاماً ذكورياً، بل هو لتلطيف وقع العاصفة على السمع، وهو سيرتدّ سمعة سيئة على الأغنيات التي تتغنى بفاتنات أسماؤهن هدى وزينة وغيرهما. يجب أن يحلّ الصيف حتى نتمكن من استساغة أغنية مثل "زينة لبست خلخالها وصارت تتباهى بحالها" أو "زينة والله زينة غالية علينا".
دلالات
المساهمون