06 نوفمبر 2024
أعيدوا قراءة التجربة السنغافورية
طالع كثيرون من متتبعي الأخبار الدولية خبر انتخاب امرأة مسلمة، اسمها حليمة يعقوب، على رأس دولة صغيرة، لكنها تعد من أغنى الدول، هي سنغافورة. وما لفت الانتباه إلى هذا الخبر الموجز من بين أحداثٍ كثيرة، تهيمن على عناوين الصحف الدولية وشاشات القنوات التلفزية العالمية، أن بطلته امرأة ومسلمة. وفي أغلب قصاصات الأنباء العالمية، المرئية والمسموعة والمقروءة، لم يتم التركيز كثيرا على الخبر، بهدف إبرازه، ربما لأن الأمر يتعلق ببلد مستقر، وبمنصب شرفي، وبطريقة انتخاب متوافق عليها داخل الجزيرة التي تتعايش داخلها أجناسٌ وعرقياتٌ ودياناتٌ كثيرة نجحت في إيجاد طريقة للتعايش السلمي فيما بينها منذ أكثر من نصف قرن.
أما في المنطقة العربية، فقد كان التعاطي مع هذا الخبر بنوع من الدهشة الممزوجة بغير قليلٍ من الافتخار والفرح لدى رواد المواقع الاجتماعية من أنصار المرأة، ومن أصحاب الحساسية الإسلامية، فأنصار المرأة في منطقتنا العربية اكتشفوا في حليمة يعقوب، المرأة المكافحة، نموذجا للمرأة الناجحة التي لم يمنعها جِنسها عن تبوّؤ أرفع منصب فخري في بلادها. ورأى أصحاب الحساسية الإسلامية في الخبر مناسبةً للتنفيس عن حالة الاختناق التي عاشتها أو تعيشها نماذج إسلامية فاشلة، أو أفشلت، في المنطقة العربية. لكن قليلين انتبهوا إلى بنية النظام الذي بفضله استطاعت امرأة من أقلية مسلمة أن تصبح رئيسةً في بلد متنوع الإثنيات
والديانات، فنجاح حليمة يعقوب، في نهاية المطاف، نجاح لتجربة فريدة من نوعها، هي التجربة السنغافورية، وهي كما وصفها مؤسسها لي كوان يو (1923- 2014)، أول رئيس وزراء في سنغافورة، "قصة نجاح" مبهرة تستحق أن تروى، وقد رواها هو فعلا في كتاب مذكرات، اطلعت على الجزء الأول منه والذي يقع في نحو 666 صفحة، عنوانه بسيط "قصة سنغافورة"، تماما مثل بساطة صاحبه، على الرغم مما تضمنه من عمق وتجارب نفتقد أمثالها في منطقتنا العربية.
يتذكر لي كوان يو الذي حكم بلاده 33 سنة قبل أن يتخلى عن الحكم عام 1999، في مذكراته، كيف فاجأهم استقلال بلادهم عن ماليزيا، ويصفه بأنه "الطلاق الثلاث"، لأنهم لم يسعوا إليه، وإنما فرض عليهم عندما قررت ماليزيا عام 1965، من جانب واحد، أن تنفصل عنها جزيرة سنغافورة الفقيرة، وتتركها تواجه مصيرها وحدها. يكتب إنه لم ينم ليلة إعلان "استقلال" سنغافورة، ولم تجر في البلاد احتفالات بالاستقلال، على غرار الدول والشعوب التي تفرح باستقلالها. ويمضي لي كوان يو مسترجعا ذكرياته: "بعض الدول ولدت مستقلة، وبعضها حققت الاستقلال. أما سنغافورة فقد فرض عليها الاستقلال. لذلك لم يكن يوم الاستقلال مناسبة احتفالية، إذ لم نسع أبدا إلى الاستقلال.. كنا نواجه مستقبلا كئيبا. كيف كان في وسعنا أن نحيا حقا؟ حتى مياهنا كانت تأتي من الدولة الماليزية المجاورة..".
لكن، بعد مرر 52 سنة، أين سنغافورة اليوم؟ تجيب عن هذا السؤال الأرقام التي توفرها التقارير الدولية المتطابقة بشأن المعجزة السنغافورية التي حولت جزيرةً فقيرةً، لا تتوفر حتى على المياه الصالحة للشرب، إلى واحدةٍ من أقوى اقتصاديات العالم، وأصبح معدل دخل الفرد فيها يفوق بكثير دخل الفرد في بريطانيا، قلعة الإمبراطورية القديمة التي كانت سنغافورة مجرد جزيرة صغيرة وفقيرة ومنسية من جزرها الكثيرة، المنبثة في كل أنحاء العالم.
يكاد عمر استقلال سنغافورة يعادل أو يفوق بكثير عمر استقلال دول عربية عديدة. وعلى الرغم من الإمكانات التي توفرت وما زالت تتوفر عليها كثير من هذه الدول، إلا أن المقارنة اليوم بين سنغافورة ودول عربية كثيرة تبدو مؤلمة، بسبب البون الشاسع بين ما حققته النهضة السنغافورية والتخلف الذي ما زالت تعاني منه دول عربية كثيرة، وهو ما يطرح السؤال الكبير بشأن أسباب نجاح تجربة سنغافورة التي انطلقت من لا شيء، وفشلت كثير من تجارب الدول العربية التي ما زالت تكرر تجارب فشلها السابقة نفسها؟
الجواب على السؤال نجده في كتاب مذكرات لي كوان يو، ولكن أيضا في التجربة السنغافورة التي ما زالت تلهم شعوبا كثيرة. ومفتاح هذه التجربة يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات: التعليم والقانون والعدالة الاجتماعية. فمنذ الاستقلال، ركز رواد تجربة السنغافورية على التعليم، باعتبار الثروة البشرية أعظم استثمار يمكن أن يحقق لشعبهم المتنوع الأديان والأعراق والأجناس، ليس فقط النمو الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، وإنما أيضا التحرّر والتحضر والانسجام والاستقرار. تعليم يعتمد على الإبداع والابتكار والانفتاح على الآخر. أما القانون فقد جعل منه رواد التجربة السنغافورية بمثابة "دين الدولة" الذي يتساوى فيه وأمامه الجميع، يُعلم الناس قيم العيش المشترك، ويمنح الطمأنينة للأجانب والزوار، ويبعث الثقة في نفوس المستثمرين. إنها دولة القانون التي تسري فيها سيادة القانون على الجميع، وتطبق صرامته على جميع أنواع المخالفات من الفساد، حتى رمي أعقاب السجائر في الشارع العام، فلا تساهل مع تطبيق القانون، كيفما اختلفت المخالفات ومهما كانت مراكز المخالفين. وبموازاة مع سيادة القانون، وتطبيقه بإنصاف ونزاهة وكفاءة وانضباط، حرص مؤسسو التجربة السنغافورية، منذ البداية، على سن عدالة اجتماعية، حتى يستفيد الجميع، وعلى قدم المساواة، من كل ما تخوله له قوانين بلاده من حقوق اجتماعية، وبذلك ضمنوا استقرار بلادهم، وحموا وحدة أمتها المتنوعة، وبنوا مجتمع العدالة الاجتماعية.
تحققت "المعجزة السنغافورية" في أقل من نصف قرن، وهو عمر بسيط في تاريخ الدول والشعوب. لذلك، ما زالت هذه التجربة ملهمة لدول كثيرة، وقد يتحقق تكرارها في دول وقارات أخرى، وهناك اليوم دول إفريقية قد تسلك التجربة نفسها وتحقق نهضتها. كلمة السر في "التجربة السنغافورية" هي الإرادة السياسية، فعندما توجد الإرادة تتحقق المعجزات، وهذا ما ينقص دولا عربية كثيرة، تنقص قياداتها الإرادة السياسية الحقيقية، للنهوض بشعوبها ووضعها في مصاف دول العالم، كما فعل لي كوان يو. أعيدوا قراءة مذكرات الرجل، لتطلعوا على تجربةٍ، كان يمكن أن تتحقق في كل دولة عربية.
أما في المنطقة العربية، فقد كان التعاطي مع هذا الخبر بنوع من الدهشة الممزوجة بغير قليلٍ من الافتخار والفرح لدى رواد المواقع الاجتماعية من أنصار المرأة، ومن أصحاب الحساسية الإسلامية، فأنصار المرأة في منطقتنا العربية اكتشفوا في حليمة يعقوب، المرأة المكافحة، نموذجا للمرأة الناجحة التي لم يمنعها جِنسها عن تبوّؤ أرفع منصب فخري في بلادها. ورأى أصحاب الحساسية الإسلامية في الخبر مناسبةً للتنفيس عن حالة الاختناق التي عاشتها أو تعيشها نماذج إسلامية فاشلة، أو أفشلت، في المنطقة العربية. لكن قليلين انتبهوا إلى بنية النظام الذي بفضله استطاعت امرأة من أقلية مسلمة أن تصبح رئيسةً في بلد متنوع الإثنيات
يتذكر لي كوان يو الذي حكم بلاده 33 سنة قبل أن يتخلى عن الحكم عام 1999، في مذكراته، كيف فاجأهم استقلال بلادهم عن ماليزيا، ويصفه بأنه "الطلاق الثلاث"، لأنهم لم يسعوا إليه، وإنما فرض عليهم عندما قررت ماليزيا عام 1965، من جانب واحد، أن تنفصل عنها جزيرة سنغافورة الفقيرة، وتتركها تواجه مصيرها وحدها. يكتب إنه لم ينم ليلة إعلان "استقلال" سنغافورة، ولم تجر في البلاد احتفالات بالاستقلال، على غرار الدول والشعوب التي تفرح باستقلالها. ويمضي لي كوان يو مسترجعا ذكرياته: "بعض الدول ولدت مستقلة، وبعضها حققت الاستقلال. أما سنغافورة فقد فرض عليها الاستقلال. لذلك لم يكن يوم الاستقلال مناسبة احتفالية، إذ لم نسع أبدا إلى الاستقلال.. كنا نواجه مستقبلا كئيبا. كيف كان في وسعنا أن نحيا حقا؟ حتى مياهنا كانت تأتي من الدولة الماليزية المجاورة..".
لكن، بعد مرر 52 سنة، أين سنغافورة اليوم؟ تجيب عن هذا السؤال الأرقام التي توفرها التقارير الدولية المتطابقة بشأن المعجزة السنغافورية التي حولت جزيرةً فقيرةً، لا تتوفر حتى على المياه الصالحة للشرب، إلى واحدةٍ من أقوى اقتصاديات العالم، وأصبح معدل دخل الفرد فيها يفوق بكثير دخل الفرد في بريطانيا، قلعة الإمبراطورية القديمة التي كانت سنغافورة مجرد جزيرة صغيرة وفقيرة ومنسية من جزرها الكثيرة، المنبثة في كل أنحاء العالم.
يكاد عمر استقلال سنغافورة يعادل أو يفوق بكثير عمر استقلال دول عربية عديدة. وعلى الرغم من الإمكانات التي توفرت وما زالت تتوفر عليها كثير من هذه الدول، إلا أن المقارنة اليوم بين سنغافورة ودول عربية كثيرة تبدو مؤلمة، بسبب البون الشاسع بين ما حققته النهضة السنغافورية والتخلف الذي ما زالت تعاني منه دول عربية كثيرة، وهو ما يطرح السؤال الكبير بشأن أسباب نجاح تجربة سنغافورة التي انطلقت من لا شيء، وفشلت كثير من تجارب الدول العربية التي ما زالت تكرر تجارب فشلها السابقة نفسها؟
الجواب على السؤال نجده في كتاب مذكرات لي كوان يو، ولكن أيضا في التجربة السنغافورة التي ما زالت تلهم شعوبا كثيرة. ومفتاح هذه التجربة يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات: التعليم والقانون والعدالة الاجتماعية. فمنذ الاستقلال، ركز رواد تجربة السنغافورية على التعليم، باعتبار الثروة البشرية أعظم استثمار يمكن أن يحقق لشعبهم المتنوع الأديان والأعراق والأجناس، ليس فقط النمو الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، وإنما أيضا التحرّر والتحضر والانسجام والاستقرار. تعليم يعتمد على الإبداع والابتكار والانفتاح على الآخر. أما القانون فقد جعل منه رواد التجربة السنغافورية بمثابة "دين الدولة" الذي يتساوى فيه وأمامه الجميع، يُعلم الناس قيم العيش المشترك، ويمنح الطمأنينة للأجانب والزوار، ويبعث الثقة في نفوس المستثمرين. إنها دولة القانون التي تسري فيها سيادة القانون على الجميع، وتطبق صرامته على جميع أنواع المخالفات من الفساد، حتى رمي أعقاب السجائر في الشارع العام، فلا تساهل مع تطبيق القانون، كيفما اختلفت المخالفات ومهما كانت مراكز المخالفين. وبموازاة مع سيادة القانون، وتطبيقه بإنصاف ونزاهة وكفاءة وانضباط، حرص مؤسسو التجربة السنغافورية، منذ البداية، على سن عدالة اجتماعية، حتى يستفيد الجميع، وعلى قدم المساواة، من كل ما تخوله له قوانين بلاده من حقوق اجتماعية، وبذلك ضمنوا استقرار بلادهم، وحموا وحدة أمتها المتنوعة، وبنوا مجتمع العدالة الاجتماعية.
تحققت "المعجزة السنغافورية" في أقل من نصف قرن، وهو عمر بسيط في تاريخ الدول والشعوب. لذلك، ما زالت هذه التجربة ملهمة لدول كثيرة، وقد يتحقق تكرارها في دول وقارات أخرى، وهناك اليوم دول إفريقية قد تسلك التجربة نفسها وتحقق نهضتها. كلمة السر في "التجربة السنغافورية" هي الإرادة السياسية، فعندما توجد الإرادة تتحقق المعجزات، وهذا ما ينقص دولا عربية كثيرة، تنقص قياداتها الإرادة السياسية الحقيقية، للنهوض بشعوبها ووضعها في مصاف دول العالم، كما فعل لي كوان يو. أعيدوا قراءة مذكرات الرجل، لتطلعوا على تجربةٍ، كان يمكن أن تتحقق في كل دولة عربية.