لم يكن عبد الأَمير جرص يحب المقدِّمات، ولولا فجيعة رحيله المفاجئ، بحادث دراجة هوائية عند منتصف أَيار/ مايو 2003 في منفاه الكَنديّ؛ لولا ذلك لما كان عليّ أَن أَضع هذه الإشارة، التي أَرجو اعتبارها ملاحظةً في الهامش أَملتها الضرورة، وليست بأَية حال محاولة لتقديم شعر عبد الأمير جرص أَو تقديماً للكتاب. فهذا ديوان كما شاء له صاحبه المولود في بغداد ربيع عام 1965، يُنشر بلا مقدّمة؛ إذ طالما اعتقد عبد الأَمير أَنّ الشعر لا يحتاج إلى تقديم من أَية سلطة، واعتبر مقدّمات النقّاد للمجموعات الشعرية مدعاة للتندُّر.
وعليه، ما هذه الإشارة سوى هامش يبسط أَمامكم، وباختصار شديد، حكاية هذه الأَعمال الشعرية وملابسات نشرها.
عندما غادر عبد الأمير جرص عمّان عصر يوم عاصف شديد الأمطار من شباط/ فبراير 2001 ــ بعد سنوات من الانتظار فيها ــ إلى كندا و"استقرّ" في ثلوج مدينة "إدمونتن"، كان قد سلّمني، قبل أَيام من سفره، هذا الديوان مرقوناً ومرتَّباً على هيئة كتاب، تحت عنوان أَوّليّ هو "مختار الفصول الخمسة ."وكما يشي الاسم فإنه احتوى على خمس مجموعات شعرية، اختار منها ما أَراده من شعره حتّى تلك اللحظة، ومن الواضح أَنه أَهمل قصائد كثيرة لم يشأ أَن تكون في هذا الإصدار؛ الذي لم يعرف عبد الأَمير آنذاك أَنه سيكون إِصداره الأَخير، وأَنه سيظهر بعد عقد ونيّف من رحيله" . "قصائد ضد الريح" (3991)، و"أَحزان وطنية" (7991)، كانتا قد صدرتا في أَثناء الحصار في بغداد (طبعة شخصية، بطريقة "الاستنساخ" التي كان من أوائل الشعراء الذين استعملوها لنشر شعرهم إبان الحصار) وأَكسبتاه مكانة مميزة بين شعراء العراق، وجعلتاه محبوباً من جمهور واسع ــ وكثيراً ما التقيت في سنوات عمّان تلك بشعراء شبّان وقرّاء يحفظون قصائد هاتين المجموعتين. هذا بالإضافة إِلى ثلاث مجموعات أُخرى جديدة كانت بعض نصوصها قد نشرت في الصحف والمجلات، والأرجح أَنّ قسماً كبيراً منها كتب بعد مغادرته العراق عام1997.
كنت طلبت من عبد الأَمير هذه الأَعمال، وقلت له إِنّ نشرها بات مسؤوليتي. كنت أَعرف كبرياءه وأنه لن يقدّمها للنشر لدى أَية جهة كانت. شظف سنوات الحصار واللجوء وما يجعل بعض الناس يخفضون جناحهم كان يجعل عبد الأمير أَكثر اعتداداً وكبرياءً.
بدا مطمئناً لوعد صديقه. لكن أَسباباً مختلفة، منها تردد عبد الأَمير بعد وصوله إلى كندا بشأن نشر المجموعات وتفكيره بصيغ أخرى للنشر، وعثوره على أَخطاء كثيرة في رقن القصائد، ورحيله الفاجع بعد ذلك بقليل، ومن ثم وقوع صديقه في الحيرة نفسها؛ جميع ما سبق كان من جملة أَسباب أَخّرت صدور هذه الأَعمال، لتظهر الآن بعد كل هذه المدة من رحيل صاحبها.
ولكن ما "يخفّف" من أثر هذا التأخير أَن أعمال عبد الأَمير لم تفقد حرارتها وراهنيتها. وهي تنشر هنا كما أرادها صاحبها وبالترتيب الذي اختاره. وهنا يجدر التنويه أَن عبد الأمير جرص كتب قصائد أُخرى بعد هذه الأَعمال، في مرحلة كندا، سننشرها قريباً. كما ضمّ دفتره الشعري الأخير مسوَّدات قصائد كثيرة كانت قيد العمل، ولم يصل معها إلى صياغة نهائية .وهنا لا بدّ من شكر جميع الأصدقاء ومحبّي عبد الأمير الذين شاركوني الاهتمام بصدور هذه الأعمال بما تستحقه من تدقيق وانتباه، وبشكل خاص المهندس قاسم جرص، شقيق الشاعر.
لا يمكن النظر إلى أَعمال عبد الأمير جرص المنشورة هنا من دون الأخذ بالاعتبار أَنّ صاحبها شاعرٌ شاب، وأَنّ القسم الأكبر من هذا الشعر المؤثر كتبه قبل أَن يصل عامه الثلاثين. كل هذه السنوات على حادثة الدراجة الهوائية لم تفقدنا ذرّة من شعورنا بخسارته ــ شاعراً عند أَوج كفاءته الشعرية وإنساناً لا مثيل لشهامته وشمائله.
لم يكن عبد الأمير جرص شاعراً فحسب، كان تجسيداً حيّاً للشعر وللعراق ــ البلد المُفَضِّل على العالم بأَسره. هو من الشعراء الندرة الذين يصيرون بلادَهم ويكثّفون أَصفى وأَعمق ما في شعوبهم.
آخر العنقود في الشعر العراقي يقف كتفاً إلى كتف مع الجواهري والسيّاب، مبتسماً ومرتبكاً، ومحنيّ القامة من ثقل صخرة العراق التي حملها حتّى آخر لحظة من حياته.
من عرفوا عبد الأَمير جرص يعرفون أَي شاعرٍ كان. ومن سيقرؤون هذه الأَعمال، سيدركون
أَي خسارة نقصد.
* هامش في الأعمال الشعرية لعبد الأمير جرص الصادرة هذا الأسبوع عن "دار الفيل" في القدس المحتلة