أطفال كبار في اليمن

15 ابريل 2018

طفل يمني في مخيم لاجئين شمال صنعاء (11/4/2018/الأناضول)

+ الخط -
ينتشرون، منذ الصباح، في الشوارع بأجسام نحيلة، ووجوه شاحبة، وملامح جريئة. يخيل للرائي أنهم ذاهبون إلى مدارسهم. ولكن بقليل من التمعن لن يراهم يحملون حقائب مدرسية، ولا دفاتر ولا كتب. إنهم أطفال اليمن الذين دفعتهم قساوة الحرب، وضنك العيش، وفقدان العائل، إلى ترك مدارسهم، وترك أحب شيء إليهم، وهو اللعب مع الجيران في أزقة الشوارع، دفعتهم إلى البحث عن مصدر رزق، يوفرون به لقمة عيشٍ لهم ولأسرهم، يذهبون إلى أعمالهم المختلفة والمتنوعة التي عادة لا تتناسب مع سنهم أو حجمهم أو قدراتهم البدنية، ويخفي كل منهم بين ضلوعه مأساة وألما كبيرا، فبعضهم أُخذوا ليشاركوا في ساحات المعارك، حاملين الأسلحة الثقيلة على أكتافهم الصغيرة في انتهاكٍ صارخ للطفولة، وتجد بعضهم تحت السيارات، يتدرّبون على إصلاحها، غير آبهين بالمخاطر الجسيمة التي يمكن أن تلحق بهم، وقلما يجدون من يقل لكل واحد منهم "انتبه أنت طفل".
منهم من تجدهم تحت أشعة الشمس المحرقة التي تلفح وجوههم ورؤوسهم، يجوبون الشوارع مشيا على الأقدام، يبحثون في أكوام النفايات والقمامات عن علب أو قوارير فارغة ملقاة على الأرض؛ ليبيعوها في مقابل أثمان زهيدة، لا تكفي لتوفير لقمة العيش، وبعضهم يبيعون الجرائد والبضائع المختلفة، يحملونها بين أيديهم منذ الصباح إلى الليل، أو يقفون في طوابير، ليحملوا أثقالا يوفرون بها لأسرهم ما يحتاجون إليه من ماء أو غاز. تجدهم في كل مكان في الأماكن الخطرة كالأفران، يعملون بجد واجتهاد لإثبات وجودهم وقدرتهم على العمل، يعملون بالحديد وبالخشب وبالنار.
لا يكترثون للعواقب والمخاطر التي يمكن أن تحدق بهم، يتعاملون مع الرجال، وكأنهم قد بلغوا 
مبلغهم. ومع كل يوم يمر، يفقد هؤلاء جزءا من براءتهم وطفولتهم التي لن تتكرّر لهم ذات يوم.
سألت أحدهم وأنا أشتري منه في إحدى الجولات: إلى متى تبقى في الشارع لتبيع بضاعتك؟ ردّ: إلى التاسعة وأحيانا إلى العاشرة مساءً. .. فقلت له متعجبة: أتأكل طعامك طوال اليوم في الشارع، ولا تعود إلى البيت إلا لتنام؟ ردّ: أجل.. فقلت له متألمة: وما يضطرك لكل هذا العناء، أتعمل بالنيابة عن والدك؟ .. ردّ في أسىً: والدي مات وتركنا خمسة إخوة، وأنا أكبرهم سنا. هو في الثانية عشرة. انعقد لساني، وأعطيته نقوده، ومضيت بغصةٍ تملأ جوفي على هذه الطفولة المهدورة التي تتبخر كل يوم بأشعة الشمس المحرقة، لتصبح عدما. لا ينكر عاقل أن هؤلاء الأطفال هم الضحية، لكنهم يختلفون في الجاني متعدّد الأوجه، فقد يكون والدان قسا قلباهما على أولادهما، فزجا بهم إلى الشوارع، وقد يكون الفقر واليتم، وقد تكون هي الحرب التي لم ترحم صغيرا أو كبيرا؛ لكن الأمر يزداد فداحةً في غياب سلطات تجرّم انتهاك حقوق الأطفال، وتتولى بنفسها حمايتهم، وتحافظ على حقوقهم، وتلتزم بما نصّت عليه اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة التي تحمّل السلطات مسؤولية الالتزام بحقوق الطفل من تعليم و حماية وأمان وحريات، وقد نصت المادة 38 منها: "امتناع الدول الأطراف عن تجنيد أي شخصٍ لم يبلغ سنه الخامسة عشرة في قواتها المسلحة"، اتفاقيات لا تطبق، ولا يلقى لها بال، في وضع مأساويٍّ دفعت الطفولة أعلى كلفة له؛ فقد وقع آلاف الأطفال اليمنيين ضحايا بين قتيل وجريح لحرب عبثية، كما بلغ عدد تسرب الطلاب من المدارس مئات الآلاف؛ بسبب إضراب المعلمين عن التدريس؛ نتيجة انقطاع الرواتب، ونتيجة ما أحدثته الحرب من فقر ويتم.
تتطلب حماية الطفولة أولا قرارا سياسيا يتبعه تضافر جميع الجهود الحكومية، ممثلة بالوزارات المعنية، وغير الحكومية ممثلة بمنظمات المجتمع المدني المهتمة بالأمر؛ للحد من العبث بحقوق الأطفال الذي يتفاقم يوما بعد يوم، ولتخفيف العناء عن الأيادي الصغيرة.
224D1486-087A-42C3-83A6-B5A7374A0AA0
224D1486-087A-42C3-83A6-B5A7374A0AA0
هويدا اليوسفي
هويدا اليوسفي