يلجأ عدد كبير من أطفال الشوارع في مصر إلى الأدوية المخدّرة لمواجهة البرد القارس الذي ينهك أجسادهم الضعيفة ليلاً. يشترون هذه الأدوية من الصيدليات، فيقاومون البرد. وبطبيعة الحال، فقد أدمنوا تلك الأدوية، حتى أن بعضهم فضّل تعاطي المخدرات من خلال الحقن. هؤلاء الذين لم يجدوا مكاناً دافئاً لقضاء لياليهم، يُقدّر عددهم بمليونَي طفل، أكثريتهم في شوارع القاهرة.
ويؤدّي إدمان الأطفال على المخدرات إلى فقدانهم الوعي، وإصابتهم بأمراض معدية، وأحياناً الموت المفاجئ، خصوصاً عند تناولهم جرعات كبيرة. وكثيراً ما يعثر المعنيون على جثث أطفال وقد فاحت منها روائح كريهة، لا سيما في الأماكن المهجورة. وعادة ما يدفنون مباشرة لعدم وجود أي شبهات جنائية. ويتضح ذلك من خلال ملابسهم الرثة ووجوههم وأجسادهم النحيلة.
تجدر الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" قسمت أطفال الشوارع في مصر إلى ثلاث فئات: "القاطنون في الشارع" الذين يعيشون في الشارع بصفة دائمة، و"العاملون في الشارع" الذين يقضون ساعات طويلة في الشارع يومياً للعمل، وأسر الشوارع الذين يعيشون مع عائلاتهم في الشارع.
وينتشر أطفال الشوارع في المناطق الشعبية في القاهرة، مثل الشرابية وشبرا والزاوية الحمراء وروض الفرج وحلوان والدرب الأحمر والجمالية وباب اللوق والسيدة زينب. ويعتمد عدد كبير من هؤلاء على المال الذي يجمعونه من التسول في الشوارع أو وسائل النقل العام، لشراء المخدرات. تجدر الإشارة إلى أنه عادة ما يعمل الأطفال تحت إدارة شخص يجمع المال الذي حصلوا عليه في نهاية اليوم، على أن يعطيهم أجرتهم.
من جهة أُخرى، ترفض أجهزة الأمن القبض عليهم لعدم وجود أماكن تأويهم. وترى أن وجودهم في الشارع ليس خطراً على الأمن، الأمر الذي يرفضه البعض. أيضاً، تشير وزارة التضامن الاجتماعي إلى أنها لا تملك أماكن كافية لإيواء أطفال الشوارع في المحافظات، بالإضافة إلى عدم قدرتها على بناء مساكن جديدة.
كشف تقرير لمكتب الأمم المتحدة في القاهرة أن وضع أطفال الشوارع في مصر ينذر بكارثة، مشيراً إلى أن نحو 76 في المائة من أطفال الشوارع الذين شملهم الاستطلاع يستهلكون بانتظام عقاقير خطيرة. يضيف أن 92 في المائة من أطفال الشوارع هم من الذكور، فيما يمثّل الإناث 8 في المائة. العادات والتقاليد تمنع خروج الفتاة، فهروبها إلى الشارع يمسّ شرف الأسرة وكرامتها. ويعمل هؤلاء الأطفال في مجالات عدة، منها بيع المخدرات وتوزيعها، ومساندة البلطجي في أي شجار، وغيرها. وفي بعض الأحيان، يوضعون في الواجهة ليكونوا بمثابة حائط صد، ويعملون أيضاً في مجال بيع الأسلحة.
بحسب الإحصاءات الأخيرة الصادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإن نحو 50 في المائة من أطفال الشوارع يتعاطون المخدرات أو يبيعونها. ويجد هؤلاء أنفسهم مجبرين على العمل بسبب إدمانهم من جهة، وخوفهم من عقاب تجار المخدرات من جهة أخرى. وتؤكد الإحصاءات أن عددهم قد وصل إلى أكثر من 2.5 مليون طفل، ويتمركزون بأكثرهم في القاهرة والإسكندرية، الأمر الذي يدل على أن الظاهرة إلى ازدياد.
اقرأ أيضاً: التسوّل.. "كابوس" مصر اليومي
كيفَ يشتري هؤلاء الأطفال الأدوية المخدّرة أو المخدرات؟ يسأل "حبظلم" (كما يطلق على نفسه)، الذي يعمل في منطقة رمسيس والذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره: "إنت عاوز فلوس؟"، ليخرج من جيبه مجموعة من الأوراق المالية من فئة عشرة جنيهات. يضيف أنه يشتري الأدوية ويتناولها، فلا يعود يشعر بأي ألم أو برد. أما "حواس"، وهو في الخامسة عشرة من عمره، فقد رفض الحديث إلى "العربي الجديد" إلا بعد الحصول على المال. بعدها، قال إن اسمه محمد، ولقبه بين زملائه "حواس". يضيف أن شخصاً يكبرهم سناً يشتري الأدوية المخدرة من الصيدليات بالتعاون مع آخرين. وعادة ما يخشاهم أصحاب الصيدليات، إذ إنهم يشكّلون عصابة، فيعطوهم الأدوية من دون تردد. يحكي قصته، ويقول إن والده توفي وتزوجت والدته من شخص آخر "بدأ يعاملني بقسوة حتى تركت المنزل الخاص بنا في القليوبية، وتعرفت إلى صبيان وبنات يعيشون معي في الشارع". يضيف: "اعتدت تناول حبوب الهلوسة والمخدرات على أنواعها. وعادة ما يكون الوضع أصعب في الشتاء بسبب البرد، في ظل عدم وجود مأوى ولا غطاء، فنلجأ إلى مختلف أنواع المخدرات والأدوية، ونصنعها أحياناً لمواجهة البرد".
من جهة أخرى، يقطن عدد كبير من الأطفال الذين يتولون صناعة المواد المخدرة في المقابر. يخلطون الأدوية، وسط غياب الأجهزة الأمنية. بالتالي، لا يجد هؤلاء الأطفال أي صعوبة لتأمين المخدرات التي تعدّ متوفرة بشكل كبير.
في السياق، يقول أستاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس، إحسان الفولي، إن لجوء الأطفال إلى أنواع معينة من المخدرات والأدوية يحميهم من البرد ليلاً، في ظل ظروفهم الصعبة ومكوثهم في الشوارع، متهماً الحكومة بتركهم "فريسة المخاطر التي يتعرضون لها يومياً". يضيف أن تلك المواد "تؤدّي إلى وفاة كثيرين، عدا عن المشاكل النفسية، بالإضافة إلى تفشي أمراض الجهاز التنفسي والكلى". ويوضح أن الأزمة لا تقتصر على الأطفال فقط، بل ثمّة عائلات كثيرة مشرّدة في البلاد.
ويشدد الفولي على "ضرورة التحرك من أجل توفير ملاجئ تليق بهم"، لافتاً إلى أن "معاناة أطفال الشوارع لا تنحصر في قلة الطعام والشراب، بل في أوضاعهم النفسية والاجتماعية". ويشدّد على أن هؤلاء "سوف يفقدون الثقة في المجتمع الذي تخلى عنهم". إلى ذلك، يقول إن "هؤلاء الأطفال هم ثروة مصر"، مشيراً إلى أن معالجة المشكلة تبدأ من معالجة الأسباب، كالظروف المعيشية الصعبة، وتدنّي مستوى المعيشة، وضيق مساحة البيوت، والعشوائيات، والفقر، ومعاملة الأطفال بقسوة. تلك عوامل قد تؤدي إلى هروبهم إلى الشارع. كذلك، ثمّة تأثير للخلافات بين الوالدين على الأطفال.
كثيرة هي أشكال معاناة هؤلاء الأطفال، إذاً. هم يفتقرون إلى أبسط حقوقهم، أي المأوى الذي يحميهم من الشارع، ويؤمّن لهم الدفء. ولأن لا شيء متوفر لهم، يبحثون عن البديل، وإن كان سبباً رئيسياً في تدمير حياتهم.
اقرأ أيضاً: الأمم المتحدة تكافح عمالة الأطفال بالغذاء في مصر