11 نوفمبر 2024
أصل فساد القيادة وتهافتها في سورية والدول العربية
يفتح الوضع الكارثي الذي آلت إليه الأحوال في سورية، على جميع المستويات، الإنسانية والسياسية، وما يبدو من انسداد الآفاق وانعدام فرص الخروج من المحرقة، باب نقاشاتٍ تزداد حدةً داخل صفوف الثورة ذاتها. ويترسخ الميل، مع تنامي الإحباطات، إلى التشكيك بالذات، لدى جمهورٍ متزايد من أنصارها الذين تحولوا، في الوقت نفسه، إلى ضحاياها، وفي ما وراء ذلك، إلى التشكيك في الثورة وفي من قادها أو شجع عليها من المثقفين والسياسيين جميعا. ويلخص تعليقٌ حديثٌ قرأته على صفحتي درجة العنف الذي تعد به هذه النقاشات، والالتباسات العميقة التي تثيرها في الوقت نفسه. هكذا كتب مدوّن باسم عبد القادر قدري أو قادري: "من الشهامة أن كل من كان له في إشعال الفتنة السورية وما آلت إليه من سفك دماء ودمار وتشريد، عليه أن يسكت وينطوي على نفسه بعيدا عن الأنظار، وهو يطلب من الله العفو عن الأوزار التي يحملها. وعلى الناس والتاريخ أن يحكم عليه بالغباء، إذا أحسنوا الظن والعمالة للأجنبي إذا أرادوا الأمانة في حكمهم".
وعبد القادر ليس خصما للثورة، ولا مرتدّا عنها. إنه يعتقد أنه يتحدث باسمها، أو ينتقم لها من المسيئين إليها. ومن يتوجه إليهم في كلامه هم أناسٌ من أمثالنا وقفوا مع ثورة السوريين، ودافعوا عن حقهم في تفكيك نظام العنف والبطش والإرهاب الذي حكمهم وتحكّم بوجودهم الفردي والجماعي نصف قرن، وحرمهم من فرص التقدّم ومواكبة مسيرة الشعوب والمجتمعات الحديثة، وقادهم، في النهاية، إلى الدمار، في سبيل ملء جيوب حفنةٍ من المرتزقة ومافيات المال والأعمال، وتضخيم حساباتهم المصرفية في الدول الأجنبية، على حساب حياة شعوبهم ومستقبل أطفالهم الذين تحوّلوا إلى شعبٍ من اليتامى والمعطوبين والجرحى والمشرّدين. وهي الحقيقة العارية التي لا يمكن لأحد إنكارها اليوم لكل من له عين أو سمع أو إحساس.
بالإضافة إلى ما تنطوي عليه هذه الأفكار من عنف تجاه الذات، تترجم كلمات عبد القادر مدى انهيار ثقة جمهور الثورة بقادتها، وخيبة أمله بجميع الذين تصدّوا لهذه القيادة أو قاربوها. وهي تطرح على قادة الفكر والسياسة السوريين ثلاثة أسئلة أساسية، سوف تزداد تردّدا في السنوات المقبلة، بسبب هول المأساة وفداحة نتائجها التي سترافقنا عقوداً طويلة: هل كنا، في سورية منذ 2011، وفي دول الربيع العربي عامة، أمام ثورة شعبية بالفعل أم هي فتنة أوقعتنا بها الدول الاستعمارية، وسار في ركابها بعض المهووسين من مثقفينا وساستنا، كما يميل إلى تصويرها اليوم كثيرون، بعد أن كان لا يردّدها إلا النظام؟ وهل كان قرار الاستمرار في الثورة صائبا بعد أن تبين تصميم النظام، ومعه جزء كبير من المجتمع الدولي، على سحق ثورة الشعب بأي ثمن، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير البلاد وتشريد أهلها وفتح الأبواب أمام التدخلات والاحتلالات الأجنبية. بمعنى آخر، هل كنا نحن، الذين وقفنا وراء شعبنا، شركاء في الجريمة، بوعي أو من دون وعي؟ وأخيرا، ألم يحن الوقت لكي يراجع الذين احتلوا مناصب المسؤولية في قيادة الثورة المسلحة والسياسية أنفسهم، ويتحملوا مسؤولياتهم، ويعلنوا انسحابهم، ويغيبوا إلى الأبد عن الصورة، قبل أن تجري محاسبتهم وربما تخوينهم؟
لا يتسع المجال هنا للرد على هذه الأسئلة المعقدة سياسيا وأخلاقيا في مقالةٍ صغيرة. لكن، من دون الخوض في تفاصيلها، يمكن التذكير ببعض العناصر الأساسية التي تشكل مدخلا للإحاطة بالإشكالات الكبرى التي تطرحها.
(1)
بداية، ليس صحيحا، بالمطلق، أن ما شهدته سورية وبقية بلدان الربيع العربي يمكن أن يدخل، مهما طوّرنا من ألاعيب نظرية وسياسية، في باب الفتنة أو المؤامرة الخارجية التي روجها
(2)
وبالمثل، ليس صحيحا، كما يعتقد الاقتباس الذي استشهدت به، أنه كان في إمكان أي مجموعةٍ من النخب الثقافية والسياسية والدينية، مهما كانت تحظى من نفوذٍ معنوي، أن تثني الجماهير
وهذا ما أثبتته الأحداث بالضبط. فقد تمسّك السوريون بثورتهم المغمّسة بالدماء والدموع، على الرغم من تنامي قوى التحالف العامل ضدهم، وخذلان الدول الصديقة التي وقفت بجانبهم، وضآلة الدعم الذي قدّم لهم. وكان أكثر ما جسد هذه الإرادة التي لا تتزعزع بحتمية الاستمرار والنصر شعارهم الذي تحول إلى عنوان لصمودهم وصبرهم: ما لنا غيرك يا الله، والذي يجمع بين اليأس من العالم الخارجي والتصميم على متابعة النضال، مهما كان الثمن، ومن دون حسابٍ للتضحيات. أدرك السوريون، منذ بداية الأحداث، أنهم في حربٍ، عنوانها إما قاتلا أو مقتولا، كما فرضها عليهم النظام، وتقبلوا قدرهم، وأدركوا أنه ليس لهم في ذلك خيار. وأنه لا يمكن في الثورة إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، ولا إجبار أو إقناع شعبٍ كسر قيوده أن يعيد مد ذراعيه لتكبيلها بالأصفاد.
(3)
لكن، في ثنايا هذا الاقتباس الذي أوردته عن عبد القادر، تكمن الفكرة الجوهرية التي كانت
(4)
عندما تنعدم ثقافة المسؤولية، وتغيب المساءلة، ثم في ما بعد المحاسبة التي تكافئ المحسن وتعاقب المسيء، تتزايد الأخطاء وتنحط النظم والأوضاع. ولأنه لا يوجد نظامٌ واضحٌ للمساءلة والمحاسبة، تختلط الأوراق ويتشوّش الوعي. وبدل أن يوجه السؤال عن الفشل أو الخطأ إلى صاحب القرار، أي المسؤول والقائد، تعمّم المسؤولية على الجميع، فنقول الشعب متخلف والشعب جاهل والثوار غير منضبطين أو غير متعاونين أو تنقصهم الشجاعة أو النزاهة أو الدين أو الأخلاق.. إلخ، مما اعتدنا على سماعه في الخمسين سنة الماضية مع جميع نظم الطغيان. وفي هذا التعميم، بل إن هدفه الرئيسي، هو قطع الطريق على محاسبة أولئك المسؤولين الفعليين عن الخطأ، وهم القادة الذين يحتلون مواقع القرار، بدءا من القمة حتى القيادات المحلية، المدنية والعسكرية.
وهذا بالضبط الخطأ الذي وقع فيه صاحب التعليق الذي ذكرته في المقدمة، فبدل مطالبته المحقة بخضوع من يتولى القيادة في مؤسسات الثورة السياسية والاقتصادية والإنسانية
وقد قاد هذا النهج في ثورتنا، كما قاد، في نظامنا المنهار، إلى أن يبعد القادرون أو يبتعدون من تلقاء أنفسهم، ويحل محلهم الانتهازيون الذين عمموا ثقافة عدم المسؤولية والهرب من المحاسبة برمي التهمة على من هو أدنى مرتبةً منهم. وشكل هذا النهج نخبة انتهازية رخيصة، لا تملك أي فضيلة، ولا تهتم بالحصول على أي معرفةٍ وخبرة. وقاد إلى الخراب الذي عرفناه في مجتعاتنا على كل المستويات، وفي الدولة بشكل خاص، وهو خرابٌ سابقٌ على الدمار ومقدمة له. والنتيجة هي تماما ما نشهده من شكوى متزايدة من سوء الإدارة والتحسّر الدائم على غياب القيادات الكفؤة والمسؤولة التي تحظى بثقة الناس وتأييدهم والتي لا يمكن، من دونها، كسب طاعتهم وحماستهم للعمل والتعاون والإنجاز.
(5)
ليس المطلوب من القيادات، من القمة إلى القاعدة، أن تكون كاملةً ومعصومة من الخطأ، فالقادة جميعا يخطئون، لأنهم بشر، وقراراتهم معتمدة على حسابات ومعلومات قد تكون صحيحةً أو ناقصة. لكن خطأهم لا يحولهم بالضرورة إلى مجرمين أو عملاء، ولا يستدعي إقصاءهم ومطالبة كل واحد منهم "أن يسكت وينطوي على نفسه بعيدا عن الأنظار، وهو يطلب من الله العفو عن الأوزار التي يحملها"، أي أن ينتحر سياسيا وإنسانيا، كما يطالب القادري، وربما أعداد متزايدة من أنصار الثورة الذين فقدوا ثقتهم كليا بالقيادة، نتيجة ما وصلت إليه من ضعفٍ وبؤسٍ وامتهان، وتخليها عن كل معايير الصدقية والأمانة الأخلاقية والسياسية، بسبب هذه العقلية بالذات.
بالعكس، ما نحتاجه هو أن نطبق قانون المساءلة والمحاسبة، فنجازي المحسنين ونعاقب المسيئين، حتى نبين الغثّ من الثمين، ونقدّم الصالح على الطالح. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنشوء قيادة كفؤة تتعلم من أخطائها، وفي الوقت نفسه، ملتزمة بجمهورها وخاضعة لمراقبته أيضا. ما يعني أيضا أن القيادة لا تصنع نفسها بنفسها، ولا تولد جاهزةً كاملةً ومتكاملة، ولكن تصنع في الممارسة والمسؤول عن صناعتها هو الجمهور نفسه والرأي العام، بمقدار ما يخضعها لآلية تكوين صحيحة وناجعة. وإذا كانت قيادة مؤسسات ثورتنا متهافتة، وهي كذلك بالفعل، فلأن معاييرنا في التعامل مع المتصدّين لمناصب المسؤولية كانت ولا تزال متهافتة، تركز على الشكل والأصل والهوية. وفي الأغلب على العلاقات الشخصية والقرابات العائلية أو العشائرية أو الدينية أو المناطقية، بدل أن تطبق معايير الكفاءة والمساءلة والمحاسبة العلنية، أي بدل أن تتبنى المعايير الموضوعية التي لا يمكن من دونها توليد أي قيادة حقيقية، تجمع إلى الكفاءة والخبرة الشعور بالمسؤولية، وتبني مشكلات مجتمعاتها، والاجتهاد في إيجاد الحلول الناجعة لها، بدل استخدام السلطة ومواقع المسؤولية لخدمة أغراضها الخاصة ومصالحها.
وإذا كان هناك مثال يعكس تهافت الطريقة التي تشكلت من خلالها قياداتنا السياسية والاجتماعية، وهي الوراثة والاستنساب الذاتي والمحسوبية المعممة، فهو بشار الأسد نفسه وأركان قياداته السياسية والعسكرية والأمنية التي رفعت إلى أعلى المراكز أقل الناس شعورا بالمسؤولية العمومية، وأجهلهم في السياسة الوطنية والدولية، وأبعدت إن لم تقتل وتنف كل من كانت لديه خبرة أو صاحب ضمير يحرص على المصالح العمومية. والدرس الأكبر الذي ينبغي أن نحفظه من هذه الكارثة الوطنية التي لا نزال نعيش فصولها الدامية، وسنعيشها بالتأكيد سنوات، قبل أن ننجح في تنشئة جيل من القادة الجدد، هو التالي: ليس انعدام المسؤولية السياسية والأخلاقية والاستهتار الذي أظهرته القيادات القائمة بحقوق الناس والتضحية بهم، بل الاستعداد لاستئصالهم جسديا وخوض حرب إبادةٍ شاملةٍ لتفكيك اجتماعهم وكسر إرادتهم، إلا جزء من التخلي الجامع، لكل فرد منا عن مسؤولياته العامة، تجاه الآخرين والبلاد معا، وتسليمه بالأمر الواقع، وانكفائه على نفسه ومصالحه، وقبوله بقاعدة تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس معايير الاستنساب والمحسوبية، بما تتضمنه من تقديم القرابات العائلية والدينية والمذهبية، وتنمية روح الزبائنية وثقافة الفهلوية والتحايل على القانون، بدل الاحتكام إلى معايير الكفاءة والمسؤولية والحرص على المصالح العمومية في جميع مناحي حياتنا الاجتماعية.