أشياؤه الصغرى تعذبها ولا مؤاخذة (1 - 2)

28 نوفمبر 2018
+ الخط -
كان لي صديق فيلسوف، يتلخص جوهر فلسفته في أن الإنسان حيوان طائش "فَلاتي"، لا تنقذه من شرور نفسه وسيئات نزواته إلا الرقابة اللصيقة المستمرة، وكان له من أجل تأكيد تلك الفلسفة عشرات الصولات والجولات الفكرية، التي يستشهد فيها بكل ما يخطر على بالك من أمثلة تؤكد فضل الرقابة في الحفاظ على المجتمعات البشرية، خصوصاً الرقابة الأخلاقية التي يرى أنها أخطر وأهم مليون مرة من الرقابة السياسية، التي تنشغل بها السلطات القصيرة النظر، في حين تترك الحبل على غاربه للمنفلتين أخلاقياً لكي يفعلوا بالمجتمع ما هو أخطر بكثير من الحديث في السياسة وتجاوز خطوطها الحمراء.

كان حلم حياة صديق دراستي، أن يعمل بعد تخرجنا رقيباً على المصنفات الفنية، وكان يأخذ ذلك الحلم بجدية شديدة، حتى إنه غضب من صديق لنا حين قال له ممازحاً إنه لا يحلم بذلك العمل، إلا لكي ينفرد بالاستمتاع بالمشاهد الغرامية الملتهبة التي تقصها الرقابة من الأفلام الأجنبية، ولم يصالح صديقنا العابث المعتذر، إلا بعدما أسمعه وأسمعنا محاضرة وافية في دور الرقابة في الحفاظ على أخلاق المجتمع التي تمثل أهم ركائز الأمن القومي فيه، "فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت" كما حفظنا جميعاً من أيام المدرسة.

لكن كل تنظيرات صديقنا ومعتقداته المؤمنة بالرقابة ودورها، لم تشفع له في تحقيق حلمه، فلم يوفق للالتحاق بالعمل في الرقابة، لعدم وجود درجات وظيفية خالية، وهو ما لم يقتنع به، معترفاً أنه أخطأ في إعلان مبادئه ومعتقداته حين تقدم لامتحان الوظيفة، لأن سياسة الدولة تغيرت بضغوط "أمريكوصهيوصليبيماسونية"، فأصبحت تتساهل بشكل ملحوظ مع "الإباحات والسفالات" التي تمتلئ بها الأفلام وأغاني الفيديو كليب، لكي تحصل على ختم التحضر والانفتاح الذي تشترطه الدول المانحة للمعونات، وحين اعترض عليه بعضنا ورآه مهووساً أكثر من اللازم بنظرية المؤامرة، قال لنا بعد تردد لم يطُل إنه لا يقدم تفسيرات شخصية، بل يستند إلى معلومات موثقة استقاها من خاله الموظف القديم بجهاز الرقابة، والذي كان مشهوداً له أنه كان من أبرز المعترضين على فترة الانفتاح القصيرة التي شهدها جهاز الرقابة خلال تولي الناقد مصطفى درويش لرئاسته وأنه ترك الرقابة في تلك الفترة، وكان ذلك من حسن حظه، لكي لا يشهد المساخر الانفتاحية التي حدثت في عهد تولي الناقد علي أبو شادي والناقد مدكور ثابت لمسئولية الرقابة، وحين عرفنا علاقة خاله القديمة بجهاز الرقابة، فسّر لنا ذلك هوسه القديم بالرقابة، والذي وصل إلى درجة قراءته لمذكرات رئيسة الرقابة الشهيرة اعتدال ممتاز ثلاثة مرات، وهو رقم لم يحققه حتى أبناء اعتدال ممتاز وأقاربها، فضلاً عن قيامه بتعليق صور في غرفته لمشاهير الرقباء مثل حمدي سرور ونعيمة حمدي التي اشتهرت بلقب السيدة الحديدية.

ولأن للأيام عجائب ومساخر في تصاريفها، فقد أفضت بصديقنا إلى معهد الدراسات الأفريقية الذي حصل منه على ماجستير في تاريخ قبيلتي الهوتو والتوتسي ومنازعاتهما الدامية، ليتضح أن سر اهتمامه بذلك النزاع، لم يكن إلا بسبب رغبته في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، طبقاً لنصيحة عم آخر له يعمل بوزارة الخارجية، وهو ما لم يوفق فيه أيضاً، لكنه برغم تغيير اهتماماته من مجال لآخر، حتى استقرت في دنيا تجارة الأقمشة مع خال آخر، لم ينس أحلامه الرقابية القديمة، فصار يعمل رقيباً من منازلهم ومكاتبهم وسينماتهم، يتابع كل الأفلام والأغاني والمسرحيات فور إتاحتها للجمهور، صارفاً عليها دم قلبه، ومتصيداً من ثناياها كل الجمل والعبارات والإيماءات والإيحاءات المنافية للآداب، ليقوم بوصفه "رقيباً عرفياً" بإبلاغ الرأي العام عنها في رسائل شديدة اللهجة، لم تنُشر أبداً في الصحف والمجلات برغم شنيعاً بشكل يجعل من الصعب قراءته حتى على خبراء قراءة نكش الفراخ. لكن تجاهل رسالته الذي كان يعزوه دائماً لنفس المؤامرة الـ "أمريكوصهيوصليبيماسونية"، لم يُثبط أو يُهبِّط من عزيمته أبداً، فقد ظل يحتفظ بكل رسائله في ملف كبير، مزمعاً أن ينشره في كتاب حين تتحسن ظروفه المادية ويقوم بإهدائه لجميع أعضاء مجلس الشعب، لعلهم ينتبهون إلى خطورة ما يفعله جهاز الرقابة المتراخي المتداعي بالبلاد والعباد، ومن يدري لعل أحدهم يتفاعل مع كتابه، فيستدعيه في مهمة عاجلة لإنقاذ جهاز الرقابة، كما سبق وأن استدعي من قبله أناس من خارج جهاز الرقابة تكون لديهم غيرة حقيقية على استقرار الوطن وأخلاق بنيه.

وحين ظهرت الفضائيات الخاصة، وغزت شاشات البيوت بأغانيها وفيديوكليباتها غير الخاضعة للمعايير الرقابية الحكومية، عاش صديقي أسوأ ايام حياته، حتى أن والده صارح أحد أصدقائنا برغبته في عرضه على طبيب نفسي، لعله يتوقف عن قضاء أغلب يومه في الاختلاء بشاشة التلفزيون وتقليب القنوات بالريموت، وهو يقوم بحصر المشاهد الفاضحة في الكليبات وتاريخ وتوقيت عرضها، دون أن يتوقف عن السب واللعن، بل ووصلت الأمور إلى درجة أنه طلب مبلغاً مالياً من أبيه على سبيل السلف لكي يقوم برفع دعوى قضائية على الراقصة بوسي سمير بعد أن ظهرت إلى النور أغنيتها الشهيرة: "حُطّ النقط على الحروف قبل ما نطلع سوا ع الروف"، ثم فكر بعدها في توسيع دائرة التقاضي لتشمل كل القنوات التي أذاعت أغنيتها وعدداً من أغنيات روبي وهيفاء وهبي ونجلاء مطربة الحصان وغيرهن من المائلات المميلات، وحين طلب منه أبوه الانتظار إلى حين ميسرة، لأن أولوية الأسرة الآن هي تزويجه هو وأخواته البنات، قال لأبيه إنه مستعد لتأجيل مشروع الزواج حتى ينتهي مشروع القضايا، ولكي يغري الأب أكثر بدعم فكرته، طمأنه أن قضية كالتي ينوي رفعها مضمونة المكسب، لأن ما سيحصل عليه من تعويض بالشيئ الفلاني من قنوات الأغاني الإباحية، سيكفي لزواجه هو وكل فتيات العائلة، بل وسيفيض لإنشاء جمعية أهلية تكون رقابة على الرقابة، وتعيد عصر المبادرات الفردية المتصلبة في زمن ارتخاء الدولة، وحين بدا كلامه مقنعاً، قام الأب بتوفير المبلغ المطلوب له، لكن حظ صديقي العثر أوقعه في براثن محامٍ نصاب، كان يظن أن القضية ستكون سبيله للشهرة الإعلامية، فلما وجد أن الصحف لا تنشر أخباراً إلا عن مشاهير محاماة الحسبة، صرف نظراً عن الموضوع، ليفاجأ صديقنا بإذاعة أغنية جديدة لبوسي سمير حملت مطلع: "أطلع له بره يدخل لي جوه"، فقام بتكسير التلفزيون بعد أن انتابته حالة عصبية، وهو ما دفع والده لمناشدتنا مراراً أن نضمه إلى جلساتنا المنتظمة في المقاهي، لعله يهدأ قليلاً، ويعود إلى غرابة أطواره السابقة التي كانت مقدوراً عليها.

على المقهى اكتشفنا أن حالة صديقنا صارت أصعب مما نتخيل، حيث تحولت عقليته إلى مكتب رقابة متنقل، وبات ينظر إلى الحياة بأكملها على أنها إيحاء كبير، ليبحث في أي جملة ترد على مسامعه عن إسقاط أو معنى مزدوج أو تورية أو إيحاء خارج يختبئ وراء الكلمات، ولكي أعطيك مثلاً على مدى تدهور حالته، سأستشهد بما جرى حين قال له صديق في معرض حديثه، عن نائب قام بتقديم بلاغ في عدد من أفلام الكوميديا التي كانت توصف وقتها بالموجة الشبابية، قائلاً له إن الأبواب صارت مفتوحة أمامك الآن لتفعيل مشروعك بالتواصل مع أعضاء البرلمان، فما كان من صديقنا إلا أن قال له: "تقصد إيه بإن الأبواب مفتوحة"، ثم اكتشفنا أنه صار كلما سمع كلمة تحتمل معنى جنسياً، يزمّ شفتيه ويصدر صوتاً أشبه بالصفير، فلا تعرف هل هو معترض على الكلمة أم أنه مستلذ بسماعها وتكرارها، فبات بعضنا يراقب نفسه ويدقق في كل كلمة يود قولها منعاً لأي خلاف يجر الجدل المسبب للصداع، في حين أمعن بعض الرقعاء منا في استخدام الكلمات المحملة بالمعاني المزدوجة والإيحاءات الملتبسة، ليستمتعوا بحالة التحفز الصفيري الدائمة التي يعيش فيها، والتي كانت تنتج ضحكاً صافياً في زمن بدأ يعز فيه الضحك الصافي الخالي من شوائب النكد.

لم يكن صديقي يتوقع أن الضربة ستأتيه مني بعد عام، حينبدأت عملي ككاتب سيناريو، حيث عرفت من أصدقاء شلّتنا التي لم أعد مواظباً على حضور جلساتها، أنه خرج من أول أفلامي (حرامية في كي جي تو) بورقة طويلة عريضة ضمت كل مخالفاتي الأخلاقية في حوار الأبطال، والتي اختلف مع أصدقائنا أنها عبارات حسنة النية لأن وجود طفلة ضمن أبطال الفيلم يجعله مؤامرة "أمريكوصهيوصليبيماسونية" على أطفال مصر، لكنه مع ذلك استجاب لنصائح الأصدقاء بعدم إثارة الموضوع معي، حين أحضر إلى قعداتنا، لكي لا يساهم ذلك في تطفيشي بالكامل منها، وحين كتبت بعد ذلك ناقدة كبيرة تعترض على عبارات وردت في ثاني أفلامي (صايع بحر)، قام بتصوير المقال ووزعه على أصدقائنا، وقال لهم إنه منذ أن قرأ خبراً يتضمن عنوان الفيلم، قرر أن يقطع علاقته بي إلى الأبد، ولذلك لم يستغرب أن ترد تلك العبارات الخارجة في فيلم يتباهى بلفظة "صايع" ويتخذها عنواناً يتقدم به إلى المشاهدين.

ومع مرور السنين، والأفلام، ظل يتصاعد ما يبلغني من غضبه من فيلم إلى آخر، حتى أنني لم أستغرب حين قال صديق لنا إنه فكر ذات مرة في أن يتقدم ببلاغ ضدي إلى النائب العام، لأنه حين ذهب إلى محامٍ آخر قال له إن قواعد رفع قضايا الحسبة قد تغيرت مؤخراً، لتشترط وجود ضرر مباشر وقع على المتقدم بالبلاغ، وحين سأله المحامي عن طبيعة الضرر المباشر الذي وقع عليه لكي يصبح من حقه أن يتقدم ضدي ببلاغ إلى النيابة، قال إن أهم ضرر وقع عليه هو أنه اضطر لخسارة صديق عمر بسبب أفعاله المشينة واشتراكه في التآمر على مستقبل البلد، ولأن المحامي الجديد كان لديه ذمة وضمير، لم يتعامل معه كزبون "سُقع" ويقوم بتقليبه في قرشين، بل قال له إن النيابة ستعتبر ذلك مكسباً له وليس خسارة، ولذلك نصحه بسخرية لم يفهمها صديقي بأن يسرع في الزواج والخلفة، لكي يشاهد أبناءه أفلامي، وحين تفسد أخلاقهم ويتشوه قاموسهم اللغوي، سيكون من حقه ساعتها أن يتقدم ببلاغه، وهو ما تعامل معه صديقنا بجدية، ليبدأ في الاستجابة لطلبات أبيه وأمه المتكررة بالتفكير في الزواج.

ولأن ذلك كله كان يبلغني أولاً بأول من أصدقائي العابثين، فقد استغربت حين وجدت صديقي الرقيب الأزلي، يقوم بالاتصال بي بعد سنوات، حين ثارت ضجة كبيرة بسبب أغنية في فيلم (حاحا وتفاحة) الذي قمت بكتابته، وجلبت لي الكثير من الصداع الإعلامي الذي ساهم في زيادة نجاح الفيلم، وبالطبع لم أرد عليه لأنني قررت قطع علاقتي به بعد أن لم يقم بدعوتي إلى فرحه، وحين واصل تكرار اتصاله بي وأتبع مكالماته برسائل ترجو الإسراع في الاتصال به، اتصلت بصديق كان أقربنا إليه، وطلبت منه أن يتصل به ويطلب منه التوقف عن الاتصال بي، لأنني لا أرغب في الخناق معه، لو قرر أن يلقي علي موعظة أو محاضرة، وأن عليه إذا كان معترضاً على الأغنية التي ضايقت بعض حماة الأخلاق في الصحف والقنوات، فإن عليه أن يبادر بالاتصال بمخرج الفيلم ومنتجه ليصب عليهما غضبه، لأنني لست مسئولاً إلا عن السيناريو الذي كتبته والذي لم تكن الأغنية جزءاً منه، وأنني سبق وأن صرحت في أكثر من صحيفة بأنني لست مسئولاً عن التطلعات الأخلاقية لأحد، ولست معترضاً على شيئ في الفيلم سوى أن الرقابة صرحت به للعرض العام، وكان من الأولى أن يتم عرضه للكبار فقط، وهو ما يستوجب فتح النقاش في مسألة التصنيف العمري كبديل عن نظام الرقابة المتكلس الغبي، وإنني سأقول كل ذلك الكلام على أية حال أمام النيابة، حين يقوم بتقديم بلاغه المنتظر ضدي بعد سنين يتوقف تحديدها على نصيبه في الخلفة، ولم أصدق نفسي حين عاد صديقنا الذي تطوع بإيصال رسالتي الطويلة الغاضبة، ليتصل بي قائلاً باستغراب إن صديقنا المهووس بالرقابة والآداب العامة، لم يكن يرغب في إلقاء أي عظات أو محاضرات، بل على العكس تماماً كان يتصل بي ليتضامن معي ضد الهجوم الذي أتعرض له من الصحافة التي وصفها بأنها منافقة وتكيل بمكيالين، وأنه يشعر بتأنيب الضمير لأنه شارك من قبل ولو على دوائر ضيقة في ذلك الكيل بمكيالين، ولذلك شعر بأهمية التواصل معي لدعمي ومساندتي.

لم يكن لدى صديقنا الوسيط إجابات على أسئلتي التي كانت هي نفس أسئلته، عما جرى لصديقنا وكيف تغيرت طريقته في التعامل مع مسألة كهذه كانت تشكل أهمية خاصة لديه في الحياة، وهل كانت زوجته السبب في ذلك التغيير أو تلك "الدردحة" المعجزة؟ ولذلك قال لي إنه لم ينتظر رأيي، بل بادر بدعوتنا سوياً إلى عشاء تاريخي في منزله في الغد، لأن خير البر عاجله، وبالطبع لم يكن ممكناً أن أرفض فرصة لمعرفة ما جرى لصديقي المهووس الأزلي بالرقابة، وكان أول ما ظننته حين فكرت في مسألة الكيل بمكيالين، أنه استاء من هجوم بعض الكتاب والصحفيين على أغنية تقول كلماتها "الصراحة راحة يا روحي وإنت ما بتعرفش"، مع أن الأغنية التي كتبها إسلام خليل، ليست إلا إعادة تدوير لإفيه "ما بيعرفش" الذي تكرر استخدامه في فيلم الأستاذين وحيد حامد وشريف عرفة (النوم في العسل) وأصبح متعارفاً على استخدامه في حوار الناس بعد ذلك، لكنني لم أكن أتصور أن صديقي سيذهب في مراجعاته الرقابية أبعد بكثير مما تصورت، ليطال عدداً من الأيقونات الفنية التي ظلت دائماً محل احترام وتقديس.

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.