أسماء جمال.. فراشة تحلّق بجناح واحد

23 اغسطس 2015
"فراشة الإسكندرية" تبعث الأمل بكل من حولها (مواقع التواصل)
+ الخط -
كانت تركض سريعاً ومن خلفها تتطاير رصاصات قوات الأمن، تبعتها عيون ضابط يرتدي الرداء الأسود للقوات الخاصة، ووجهه ملثم لا يظهر منه غير عينين حادتين تتوعدان بما هو أبعد من تلك النظرة القاسية.

ظلت أسماء جمال، ذات التسعة عشر ربيعا، تركض أسرع وأسرع، إلى أن سقطت على الأرض، فوقف أمامها الضابط الذي يلاحقها، وقال: "سأجعلك عاجزة ما بقي من عمرك، كي لا تفكري في النزول للشارع ثانية"، قبل أن يطلق من سلاحه وابلا من رصاص الخرطوش على مسافة قريبة جدا منها، كانت كفيلة أن تودي بحياتها.

زحفت أسماء وقدمها تنزف من وابل طلقات الخرطوش التي اخترقتها، تجمعت حولها مجموعة من المواطنين "الشرفاء" - بالتعبير المصري الدال على هؤلاء المعادين لأية تظاهرات منذ ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011- انهالوا عليها بالضرب والسبّ، حتى وصلت زاحفة من جديد إلى مدخل محل تجاري، فطلبت من صاحبه بعض مياه لشعورها القوي باقترابها من الموت، فكان رده: "المياه سأغسّلك بها بعد موتك".

"استيقظتُ فوجدت نفسي ممددة على سرير، وأمامي صورة الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر"، وقبل أن تنطق شفتاها ببنت كلمة، قال أحد الواقفين: "لا تقلقي.. أنتِ بمقر التيار الشعبي، وجدناك ملقاة على الأرض، فحملناكِ إلى هنا، فيما تبحث عنك قوات الأمن".

لحظات، وفوجئ كل من في مقر التيار الشعبي بالإسكندرية، بأصوات أقدام تصعد درجات السلم مسرعة، وتقترب أكثر وأكثر، حتى بدأت أيادٍ تطرق على الباب بشدة. في هذه الأثناء، كانت أضواء التيار قد أُطفئت بالكامل، لعلّهم ينصرفون سريعا، وبالفعل كان.

رفضت عدة مستشفيات استقبال أسماء لإسعافها، لأن نوع إصابتها يشير إلى أنها إصابة تظاهرة، ولا تظاهرات تخرج سوى تلك الرافضة للنظام المصري الحالي، والكل أصبح يخاف إلا من رَحَمَ ربي.

وفي مستشفى صغير بأحد أزقة الإسكندرية، وافق قسم الاستقبال على إسعاف أسماء، وما إن حضر الطبيب واستكشف حالتها، حتى أكد أن الحل الوحيد هو البتر.



إلى هنا لم تكن النهاية، بل كانت بداية مشرقة مفعمة بالأمل والتفاؤل، بداية تسير إليها أسماء تقفز على قدم واحدة، وأخرى يعوّض غيابَها عكازان، تحكم قبضتهما بيدها.

اليوم، تخضع أسماء، لجلسات علاج طبيعي مكثفة بإحدى دور الرعاية الخاصة، يستمد ذووها وأصدقاؤها قوتهم وإرادتهم من ابتسامتها ووجهها البشوش، ينتظرها الجميع كي تمازحهم وتناكفهم وتحمّسهم على مواصلة المسير في حياةٍ لم يختاروا مصيرهم فيها، ولكن عليهم قبول واقعهم طواعيةً.

تضطر أسماء للسفر من الإسكندرية للقاهرة شهريا، لاستكمال رحلة علاجها الطبيعي، ما جعلها تغيّر نظرتها الضيقة للحياة، التي كانت تنظر لها فقط من خلال واقع الظلم والقتل والدماء المسالة في الميادين المختلفة.

إقامتها في دار الرعاية جعلتها تتعرف على مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، وعلى أنواع مختلفة من الإصابات وحالات الصمود والتحدي، وأيضا على حالات الضعف وفقْد الإرادة.

"لكن قياداتكم أغبياء.. هم سبب رئيسي في ما وصلنا له اليوم"، قالها شاب في أواخر العشرينيات من عمره، وهو يمارس نوعا من التمارين في صالة الألعاب الملحقة بالدار، فردت أسماء "من هي قياداتنا؟.. ومن نحن؟"، فأجاب "الإخوان"، فقالت "ومن قال إني إخوان"، فردّ "أوَلَسْتِ..؟"، قالت "ليس كل من يشارك في التظاهرات هو بالضرورة إخوان"، فقال "ولكن نحسبهم عليهم"، فسألته "ولمَ؟"، فردّ "على الأقل هم متعاطفون مع إرهابيين". فقالت "إذا فلننهِ الحديث.. فلا أرضى لك أن تتحدث مع إرهابية صغيرة".

في اليوم التالي تغيّبت أسماء عن حضور جلسة التدريبات في صالة الألعاب الملحقة بالدار، تغيبت لمدة خمسة أيام، وفي اليوم السادس حضرت التدريب، فقال لها الشاب العشريني "سألت عليك كثيرا.. أين كنت؟"، قالت "جلسات العلاج الطبيعي كانت مرهقة للغاية في الفترة الماضية، واكتفيت بها حتى لا تتراجع حالتي، كما أوصى الطبيب المعالج".

ومنذ ذلك اليوم، أصبحا صديقين، يتحادثان طويلا، ويقضيان أوقات التدريب معا، كما عرّفها على صديقته التي كثيرا ما تزوره في الدار.

وفي يوم من الأيام، جاءت والدة شاب صغير لم يكمل الستة عشر عاما، تشكو لأسماء أن ابنها لا يتحدث منذ أيام، ويبقى صامتا كثيرا، ولم يعد يقبل حضور جلسات العلاج الطبيعي والتدريب، وطلبت منها الحديث معه لأنه يرتاح لها.

تحدثت أسماء مع الشاب الصغير، ففتح قلبه لها وقال: "حياتي انتهت هنا.. أنا مصاب بشلل رباعي.. كيف لي أن أواصل دراستي ثم أنخرط في سوق العمل، ثم أكوّن أسرة ثم أكونُ فردا فاعلا في مجتمع يرفضني بسبب انتمائي السياسي حاليا، وسيرفضني بسبب إصابتي لاحقا".

حديثه مع أسماء ساعده كثيرا في قبول واقعه وإصابته، ومستقبله الذي لم تتشكل ملامحه بعد، فهو ينظر له من على كرسيه المتحرك، فيما تحاول أسماء أن تجعله ينظر له من منظور آخر، مليء بقصص النجاح والتحدي والإرادة.

طلاب جامعة الإسكندرية في وقفة رمزية تضامنا مع أسماء


"فراشة"، هو اللقب الذي حصلت عليه أسماء، لبهجتها وخفّتها وابتساماتها التي توزعها على كل من حولها، تحاول جاهدة أن تُشع طاقة إيجابية تملأ بها محيطها، فيما تنكمش وحدها على سريرها وتبكي أحزانها، إذا ما راودتها ذكريات الماضي، ولكنها عازمة على مواصلة المسير.

اقرأ أيضاً: بتر ساق طالبة مصرية ضربها ضابط وبلطجي

المساهمون