أسطورة 6 أكتوبر

10 أكتوبر 2016

مانشيتات صحف مصرية تواكب بدايات حرب أكتوبر 1973

+ الخط -
تقوم الدول والأنظمة السياسية عادةً بقراءة التاريخ في سياق خدمة مصالحها ورؤيتها، وتعيد صياغة التاريخ وأسطرة بعض أحداثه، لتنتقي منه ما يحقّق أهدافها، وحرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول ليست خارج هذا السياق، إذ إن تضخيم الانتصار في الحرب، وأسطرتها، هو الوجه الآخر لتبرير الخروج من حالة الحرب مع المحتل الصهيوني إلى حالة الاصطفاف معه في الإقليم.
استُخدم انتصار الأيام الأولى في الحرب لتبريد حرارة جرح الكرامة الذي تسببت به نكسة عام 1967، ورمى تضخيم الانتصار، في كل السنوات الماضية، إلى اعتباره النهاية المشرّفة لصراع النظام العربي الرسمي مع إسرائيل. وتمتزج هذه الرواية حول الانتصار مع الحديث عن عدم إمكانية الانتصار على إسرائيل، لتكتمل الرواية العربية الرسمية على تناقضاتها، وتبرّر الموقف الحالي اللاهث خلف التطبيع مع الكيان الصهيوني، عبر إقناع العرب بأن هذه الحرب الأخيرة ردّت بعضاً من كرامتهم، وفي الوقت نفسه، استمرار الحديث عن استحالة الحل العسكري للصراع من جهة أخرى، بما يعني الخروج منه مرفوعي الرأس في إطار "سلام الشجعان"، وقد حرص الرئيس أنور السادات على استخدام الرواية بمكوّناتها هذه، ليحقق العبور من حرب أكتوبر إلى "كامب ديفيد".
كانت الحرب نموذجاً لقدرة الجندي العربي، في مصر وسورية، على تحقيق إنجازات عسكرية، وضرب التحصينات الصهيونية في سيناء والجولان، واستعادة الثقة بقدرته على تحقيق الانتصار ودحر العدوان، وهي مسألة مهمة بعد هزيمة 1967، لكن شجاعة الجندي المصري وبطولته ترافقتا مع إرادة سياسية في اتجاهٍ آخر، حاولت استخدام التحرّك البطولي للجنود في ضرب كل ما قاتل الجنود من أجله، فلا كانت حرباً للتحرير، ولا مقدمةً له، وإنما أوقف القرار السياسي الاندفاعة العسكرية في 6 أكتوبر، ووضع لها حدوداً لا تتخطّاها، وطمأن صانع القرار السياسي الأميركيين إلى محدودية المعركة، ثم ارتكب أخطاءً أخرى في أثناء سير المعركة، وسمح للاسرائيليين بقلب الأمور لصالحهم، قبل أن يتخلى عن شريكه السوري، ليقاتل وحيداً في حرب استنزافٍ كبيرة في الجولان.

سبقت التحضيرات للحرب وصول السادات إلى الحكم، لكنها مع وصوله أخذت مساراً آخر. لا بدّ أن نتذكّر أن من أدار الحرب نظامٌ عربي من نوع مختلف، يرغب في عقد التسويات، ويرى التفريط بالحقوق القومية طريقاً لتثبيت الحُكم، وتحقيق التنمية والرخاء الاقتصادي، وتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة، القوة الكبرى في العالم. تم ترويج دعايةٍ مفادها أن الحروب مع إسرائيل سبب كل تعثر وأزمة في البلدان العربية، إذ تحمّل شعوبها ما لا قدرة لهم على احتماله، وترهق الدول العربية مالياً وعسكرياً، وتساهم في تكريس واقع التخلف الاقتصادي والتنموي. ولذلك كله، يصنع السلام أفقاً جديداً، ويعد بالرخاء والاستقرار. وهكذا برّر السادات ذهابه منفرداً إلى "كامب ديفيد"، ثم برّر بقية النظام العربي الرسمي التحاقه بهذا النهج، تحت عناوين الواقعية السياسية.
كان ما حدث في مصر كارثةً على كل المستويات، فخسرت دورها المحوري إقليمياً ودولياً، وباعت علاقاتها بالهند والاتحاد السوفييتي ودول عدم الانحياز، وتأثيرها في الوطن العربي وأفريقيا والعالم الثالث، بالارتماء في أحضان أميركا، وانحصر دورها في نقل الرسائل الإسرائيلية إلى الفلسطينيين، والضغط عليهم لإنهاء القضية الفلسطينية بأي ثمن. لم تحقّق مصر في الداخل إنجازاً تنموياً، بل طبّقت وصفات صندوق النقد الدولي، فزادت معدلات الفقر والبطالة، وتضاعف التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء. باختصار، ضُرِبَت كل الإنجازات السابقة، من تأثير ودور مركزي في الوطن العربي، وشرعيةٍ تتعلق بتمثيل مصالح الأمة العربية في مواجهة الاحتلال والعدوان، وعدالةٍ اجتماعية في الداخل، وانتهى الأمر إلى أسوأ أنواع الانحطاط.
كانت حرب أكتوبر، بإدارتها السياسية، تحجيماً للبطولة العسكرية، وتمهيداً للنكبة الفعلية في "كامب ديفيد". كانت نكسة عام 1967 هزيمة قاسية، لكن تجلّي الإرادة السياسية الرافضة للاستسلام حافط على نوعٍ من التوازن، على الرغم من أنها لو استسلمت لكانت ربما حصلت على أكثر مما أُخِذَ في "كامب ديفيد". وقعت هزيمة عسكرية في 1967، فقوبلت بإعلانٍ صريح في قمة الخرطوم عن رفض التسويات المذلّة، وكانت اللاءات الثلاث (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف)، التي يسخر منها الإعلام الرسمي العربي حالياً، تعبيراً عن التمسّك بخيار مواجهة العدوان، وتعويض خسارة جولةٍ في صراعٍ طويل مع الكيان الغاصب والقوى الاستعمارية الداعمة له، تُرْجِم بإعادة بناء الجيش المصري، وخوض حرب الاستنزاف التي لا تذكر كثيراً على الرغم من أهميتها السياسية والعسكرية في رفض الهزيمة ومقاومتها.
ما كان ينقص حرب أكتوبر توفر الإرادة السياسية التي تبني على النجاح العسكري، لكن من أراد التفريط بالحقوق عظّم من انتصار أكتوبر، بصيغته التي أفشلتها السياسة، كما من نكسة يونيو، كي يستخدمها في تبرير استسلامه، وأخفى إنجازات حرب الاستنزاف، وسخر من إنجازات حركات المقاومة لاحقاً في وجه إسرائيل، لأنها تكشف تهافت موقفه.
ما يستحقّ السخرية ليس اللاءات الثلاث، المعبرة عن إرادةٍ سياسيةٍ ترفض الهزيمة، بل القرار السياسي الذي يلجم النجاح العسكري ويحجّمه، ليركض وراء سلام الأوهام وسراب التسويات، فتقابله إسرائيل بعنجهيةٍ وإذلال، وترفض التنازل تلو التنازل، ولا ينعكس إلا غياباً للمشروع والرؤية السياسية، وإخفاقاً على كل المستويات.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".