أسطوانة "ربرباند"... ديفيس يتجوّل في كرنفاله

28 سبتمبر 2019
يسدِل الستارة على حقبة ليُدشن أخرى (ديفيد ريدفيرن/ديدفيرنز)
+ الخط -

من بين تجليّات عبقرية الراحل مايلز ديفيس، احتضانه للمستقبل. هو واحد من صنّاع الذائقة، الذين يُسدِلون الستارة على حقبة ليُدشنوا أخرى جديدة. هذا ما فعله في الخمسينيات بعد أن وقّع عقداً مع شركة كولومبيا، سجّل بمستهله ألبوم Kind of Blue، تُحفةٌ غيرت مسار تاريخ الجاز، والموسيقى عامةً. يُحسن مايلز ديفيس رؤية القادم ثم يمضي نحوه.

مع نهاية السبعينيّات، تنبّه إلى أهميّة الموسيقى الإلكترونية وتلمّس محاسنها الفنيّة ومؤهلات الرواج لديها. عزم على فتح ذلك المجال والاستثمار فيه فنيّاً وإنتاجياً. على الرغم من أنه ابتدأ تلك الرحلة الاستكشافية مع شركة كولومبيا بدايةً؛ إلا أنه، في النهاية، قرّر عام 1985 التعاقد مع شركة الأخوة وورنر (وورنر بروذورز) الأكثر عصرية.

يُعدّ ألبوم Rubberband، الذي صدر بداية الشهر الحالي، لملمة موادّ سجلّها ديفيس مع شركة وورنر، التي إما صدرت فُرادى، أو ظلّت حبيسة الأدراج. جميعها تصبّ في التوجّه الذي اعتقد به ديفيس واعتنقه منذ منتصف الثمانينيات، المُتمثّل في الانفتاح على الموسيقى الإلكترونية وأجناس موسيقى البوب الغنائية. اتجاهٌ سيثبت أنه سيمثل وجهة الصناعة الموسيقية للآتي من العقود.

تستهل أغنية Rubberband، فاتحة الألبوم، ضوضاء شارع مزدحم. ثم مداولة بين بوق مايلز يعزف سلسلة نغمات وبين صوته ببحّته الخالدة، مردداً؛ ربرباند. تنتظم الأغنية قُدماً على نبض إيقاع بطابع Groove الثقيل الذي سيميّز أغاني الهيب هوب والآر أند بي في التسعينيات. في الخلفية، إلى جانب الغيتار، يُسمع صدى ديفيس يعزف ويردد بأسلوب الهيب هوب، فيما المغنية (ليديزي) ترتجل.

تجسّد This is it روح الثمانينيّات، بصوت أورغ مُركّب للأصوات (السينثسايزر) والغيتار الكهربائي المنظوم على إيقاع funk روك الرائج في تلك الفترة، المدعوم بنبض غيتار الباص ذي لون يشبه الفقاقيع. صدى بوق مايلز يُسمع في الأرجاء، كأن به يرقص على إيقاع الفانك ويتبادل الارتجالات مع الغيتار، فيما تؤمن انتقالات الأورغ الهارمونية الأرضية، موجهّةً مسار الألحان.

في Paradise، بالرغم من غيابه شبه الكامل، وإن سُمع بوقه في الخلفية مسحوباً منه خواصه اللونية، ها هو ديفيس، برؤيته الاستشرافية، يُقدم لون اللاتين جاز الذي يمزج بين فلامِنكو الرومبا بغيتاره وإيقاعاته وانفرادات ناي الفلوت وغناء الآر أند بي المرتجل، تقدمه المُغنيّة (ميدينا جونسون). سيُعدّ اللاتين جاز إحدى الوجبات الغنائية الرئيسية لحقبة التسعينيات القادمة.

يستمر غياب ديفيس في So emotional؛ إذ تتصدّر الأغنية لالا هاثاويه بأداء أبعد من الجاز وأقرب إلى الآر أند بي الذي يُذكّر بالعصر الذهبي للأغنية العاطفية إبان ثمانينيّات تينا تيرنر وديانا روس. ثلاث نغمات بريشة غيتار، تتردّد باستمرار وتواتر يكاد يكون منتظماً. ظهور مايلز الذي يكاد يكون يتيماً، يتجلّى في انفرادية، من دونها لا معنى حقيقةً لإدراج الأغنية في الألبوم.

لحن Give it up، إحدى لحظات الألبوم التي ترتقي إلى مستوى الجاز، من حيث كثافة الأداء وحماسة وامتداد الارتجالات التي تعتمد أسلوب الحوار بين الآلات يُديره بوق مايلز بحضور الساكسوفون والفلوت. الكل حاضر في مشهد يرسمه الغيتار والسينثسايزر، يبرقان بحيوية الفانك والآسيد جاز المُميز لنمط ونبض الحياة في منهاتن ووول ستريت في أميركا أيّامَ الثمانينيّات.

سلاسل ملتوية من أنصاف نغمات متجاورة كروماتيّاً، تُجسّد موسيقياً عنوان اللحن Maze؛ متاهة. تستمر نكهة الفانك بخواص الغيتار وأورغ السينثسايزر. تحضر الطبول وقد أضيفت عليها مؤثرات إلكترونية وانضمّت إليها الأصناف الأفريقية لتُثري النسيج اللوني. يتميّز اللحن، كسابقه، بحُسن الأداء وانسجام أطرافه. الخاتمة تعتمد أسلوب التلاشي fade out، الذي سيطبع تسجيلات تلك الفترة.

Carnival time أيضاً اسم على مُسمى. خلطة من الأجواء والألوان تكاد تُصيب الأذن بالغثيان. من يسمعها كمن يتجوّل في مهرجان فيه ما هبّ ودبّ. أطياف وتريّات مُبرمجة إلكترونياً، مؤثرات صوتية وتكسّرات إيقاعية مُعقدة، تمظهرٌ لأسلوب الأسيد جاز المضطرب والمتوتّر والباعث على النشوة في آن. ببوقه، يجول مايلز في كرنفاله، يتنقّل مرتجلاً بين المقامات، ينزل ويهبط كمن يركب الأراجيح.

فقرة غنائية أخرى بعنوان I love what we make together، يتصدّرها المُغنّي راندي هول، بصحبة جوقة آكابيلا، بأسلوب الآر أند بي من جديد. جوقة أخرى في الخلفية، مجموع أبواقٍ نحاسية، في مُعظم الوقت تساند مايلز ديفيس خلال ارتجاله. يُسهم ذلك في منح الأغنية شكلاً متناظراً يُقرّبها من المؤلف الموسيقي، حيث صوت مُغن وجوقة مُغنين مُقابل صوت بوق وفرقة من عازفْين.

تشكّل See I see نموذجاً آخر من النسيج التركيبي الذي يميز مزاج الافتتان بالإضافات الإلكترونية على موسيقى الجاز. هنا يُسمع مايلز ديفيس كعهْد مُحبّيه ومُريديه به. سحرُ صوت بوقه المكتوم بالغموض والإثارة، يصعد السلالم الموسيقية المباغتة والغريبة، يُبقي الآذان على أعصابها والقلوب على إيقاع نبضاتها. تتطاير انسجامات الأورغ والغيتار كالفقاعات في زجاجة مشروب غازي بارد.

ينقسم اللحن ما قبل الأخير إلى مقدّمة بعنوان Echos in Time؛ حيث يُسمع بوق ديفيس يرتجل في فضاء ترسمه مجاميع وتريّات بُرمجت إلكترونياً. تبدو الموسيقى ميلانكوليّة، أشبه بمصاحبة سينمائية. فجأة، يُسمع صوت مايلز مُقدّماً القسم الثاني The Wrinkle، دراميٌّ بدوره، وإن بروح حيوية ينفُخها بوقه، محمولاً على قرع الطبل وضربات ريشة الغيتار وسلالم الأورغ الكهربائي.

الخاتمة عود على بدء بصياغة أخرى لـ Rubberband. ينفرد ديفيس بعلامته الفارقة؛ حيث يضع كاتماً لبوقه، مُبدعاً صوتاً أقرب للبوح. يُعيد عدة نغمات بتواتر على إيقاع الباص والطبل، بأسلوب تصغيري - مينيمالي. تتميز الخاتمة بانفراد مُطوّل لآلة الغيتار الكهربائي. الخلفية كما هي في الثمانينيّات، انسجامات تبثّها في الأغنية أصواتُ الأورغ الكهربائي، ثم في الأخير تُنهيها.

دلالات
المساهمون