أسبوع هزّ فرنسا وكشف التفسخات السياسية

28 يناير 2015
من الاحتجاجات المندّدة بالرسوم المسيئة للنبي (رنا ساجد حسين/getty)
+ الخط -
إنّه واحدٌ من أكثر الهجمات دمويّة على مدنيين في فرنسا منذ الثمانينيات، وهو الهجوم الأخطر ضدّ صحيفة منذ نهاية حرب الجزائر. لقي 12 شخصاً حتفهم في 7 يناير/كانون الثاني على يد رجلين مسلّحين يحملان أسلحة كلاشينكوف في مقرّ الصحيفة الأسبوعيّة الساخرة "شارلي إيبدو" في باريس. وفي الأيام التي تلت ذلك، وقعت هجمات أخرى، لا سيما على سوق كوشير (متجر يهودي). وقد انتهت مطاردة منفذي الهجوم بوفاة المسؤولين، الأخوين كواشي، ورجل ثالث، كوليبالي.
أثار هذا الهجوم عاطفة كبيرة جعلت ملايين الفرنسيين ينزلون إلى الشارع في 11 يناير/كانون الثاني. ثم صدرت "شارلي إيبدو" مجدداً بعد أسبوع، وقد طبعت 7 ملايين نسخة، في حين أنّ عدد نسخها لا يتجاوز عادة بضع عشرات الآلاف من النسخ. وتعزى أسباب هذه التعبئة الاستثنائية إلى طبيعة الهجوم الذي استهدف صحيفة، وإلى وفاة عددٍ من رجال الشرطة والمارة، وبعض المسلمين، وإلى احتجاز رهائن من المواطنين اليهود، وقتل أربعة منهم لمجرد أنّهم يهود. ولا شيء بالتأكيد، يمكن أن يبرر عملاً كهذا، أياً كانت الدوافع، والجهات التي موّلت ونفّذت هذا الهجوم.
مع ذلك، هل تعكس هذه الوحدة الوطنية، التي تُرجِمَت في 13 يناير/كانون الثاني من خلال إجماعٍ برلماني على الإشادة برئيس الوزراء مانويل فالس وإنشاد النشيد الوطني الفرنسي، إجماعاً قوياً؟ تحليلات مشتركة؟ وجهات نظر متقاربة؟ لا شيء مؤكّد.


فمن جهة، وعلى الرغم من الحملة التي تنادي بحريّة التعبير، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أكثر من 40 في المائة من الفرنسيين لا يؤيدون نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد. وهؤلاء الفرنسيون يصنعون الفرق بين الحق في التجديف، وهو حقٌ معترف به في القوانين الفرنسية، واستخدام هذا الحق في وصم جماعة مهمشة أصلاً، ومفاقمة التوترات في فرنسا بين الفرنسيين المسلمين والآخرين.

ومن جهة أخرى، أثير جدال حول الشعار الذي حاولت الحكومة والمعارضة فرضه على الجميع، "أنا شارلي". غير أنّه بإمكاننا أن ندين هذا الهجوم بدون أن نشعر في الوقت عينه بالقرب من صحيفة أسبوعية شهدت خلال القرن الواحد والعشرين، انعطافاً نحو اليمين بدفعٍ من رئيس تحريرها فيليب فال. فقد اتّخذ موقفاً ضدّ الفلسطينيين، خصوصاً خلال الانتفاضة الثانية، ودعم المغامرة الإسرائيلية في لبنان عام 2006، وشارك في الحملات المعادية للإسلام، حين نشر عام 2006 الرسوم الكاريكاتورية للنبي التي نُشِرَت في الدنمارك. وأخيراً، طردت هذه المجلة الأسبوعية التي تدّعي حريّة التعبير أحد أبرز رساميها الكاريكاتوريين، سينيه، بناءً على اتهامات كاذبة بمعاداة الساميّة. وهكذا ليس من المستغرب أنّه، بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، دفع نيكولا ساركوزي بفيليب فال إلى إدارة "فرانس أنتير".

ويتناول جدالٌ آخر أثارته هذه الهجمات "الأحياء الصعبة"، أو ما يُسمى بالغيتوهات، حيث تتمركز المجموعات السكانية الأكثر فقراً، خصوصاً تلك المهاجرة والتي غالباً ما تكون مسلمة. وإنّ أتى رئيس الوزراء على ذكر أحد أشكال "الفصل العنصري" القائم في فرنسا، وهو ما أثار جدلاً واسعاً. هذه المشاكل حقيقية وموجودة منذ عقود. وخلال أعمال الشغب التي حصلت في الضواحي عام 2005، طُرِحَت، لكنها لم تُحَل قط. وثمة مجالٌ للشك في أنّ الحكومة الحالية التي، كسابقاتها من الحكومات اليمينية، فاقمت الانقسامات الاجتماعية، وأيّدت الأكثر ثراءً على حساب الأشدّ فقراً، ستتخذ إجراءات لسدّ الفجوة الاجتماعية.


في المقابل، تقدم الحكومة اليسارية والمعارضة اليمينية على مزايداتٍ للتأكيد على ضرورة تطبيق العلمانية في المدارس، وفرض الانضباط، وعلى أنّه لا يحق للطلاب الاعتراض. وبعد القانون الذي حظر وضع الحجاب في المدارس في المرحلتين الابتدائية الثانوية عام 2004 (لكن ليس في الجامعات)، باسم "العلمانية"، تُستعمَل العلمانية مرة أخرى كسلاح حربٍ ضد المسلمين (في حين أنّه لا بدّ من التذكير بأنها كانت تُستعمَل تاريخياً كأداة لتهدئة المشاكل الدينية).

في 13 يناير/كانون الثاني، أنشد البرلمان بالإجماع، وهو واقفٌ كرجلٍ واحد (إذ إنّه يضم عدداً صغيراً من النساء) النشيد الوطني الفرنسي، وأكّد عزمه على مكافحة الإرهاب. وقد خصصت الحكومة مبالغ كبيرة ليس للأحياء المهملة، إنما للشرطة والاستخبارات. وفي اليوم نفسه، أقرّ البرلمان بالإجماع التزام الجيش الفرنسي في العراق، مظهراً إلى أي حدٍّ لا تفهم الأحزاب السياسية الفرنسية العلاقة بين الأعمال التي تحصل في فرنسا، والقنابل التي نرسلها من مالي إلى العراق.

بيد أنّ الوقت قد حان لإجراء مناقشة موضوعية بشأن "الحرب على الإرهاب" التي شنّتها مجدداً الدول الغربية و"المجتمع الدولي" إثر توسّع تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). لدى رؤية نتائج الحرب السابقة التي شنّها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش (المزيد من أعمال العنف في كافة أنحاء العالم، وتفكيك العراق، وتبرير الإعتداءات على الحريات، والقانون الجديد لمكافحة الإرهاب، والدعم المتزايد للأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط)، نطرح تساؤلات: ألم يحن الوقت بعد لإجراء تغييرٍ جذري في السياسة الغربيّة والفرنسيّة؟ وألا ينبغي التذكير بأنّ موجة ثورات الربيع العربي التي حدثت بين عامي 2011-2012 قد أدّت إلى فقدان الثقة بتنظيم "القاعدة"، إذ إنّها كانت تفتح الطريق أمام تحوّلٍ سياسي وديمقراطي في البلدان العربية؟

في هذا السياق، يرسل التقارب بين الرئيس (المصري عبدالفتاح) السيسي والرئيس (الفرنسي فرنسوا) هولاند إشارة خاطئة إلى العالم العربي. كذلك، ألا ينبغي التذكير أيضاً بأنّ المأساة الفلسطينيّة، التي لم تُحَل على الرغم من عشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، هي التي تغذّي الجماعات الأكثر تطرفاً كما أقرّ وزير الخارجية الأميركيّة جون كيري؟

كان هناك وقتٌ، بعد عام 1967، حين كانت فرنسا من خلال موقفها المستقل حيال إسرائيل والولايات المتحدة تتمتع بمكانة كبيرة في العالم العربي. بالتالي لم تكن "مستهدفة" من قبل أي حركة. وقد حان الوقت لكي تمسك فرنسا مجدداً بزمام الأمور وتستعيد دورها ومكانتها في العالم.

*صحافي، ومؤلف كتاب "الجمهوريّة، والإسلام، والعالم La République, l’islam et le monde"، دار "هاشيت Hachette"، عام 2014.