لا يملّ الفنان التشكيلي اللبناني أسامة بعلبكي (1978) من ملاحقة الواقع من نافذته الخاصة، حيث يسترق النظر منها إلى مشهد يرسمه على طريقته، فلا وجود لديه لمدنٍ خالية من الأشجار أو من ضوء القمر أو من الشمس.
في هذه المناخات، التي تنزع إلى التجريدية الشاعرية، سعيٌ إلى إبراز التباين بين العتمة والنور فلا يكتمل الأزرق الذي يكشف تفاصيل المدينة في الليل من دون ذلك الأصفر أو البرتقالي في خلفية الأفق في لحظة تتكرّر في معظم أعماله؛ لذلك غالباً ما ترسم لوحاته الغروب وكأنه يشير إلى مفارقة وجودنا في عالم يوشك الضوء على مغادرته دوماً.
"ضدّ التيار" عنوان معرضه الجديد الذي يحتضنه "غاليري صالح بركات" في بيروت، منذ 13 من تمّوز/ يوليو الماضي ويتواصل حتى منتصف آب/ أغسطس الجاري؛ حيث يضمّ أعمالاً رسمها الفنان بدءاً من 2010 وحتى اليوم.
يأتي العنوان ليؤكّد رؤية بعلبكي التي عبّر عنها في كتيّب تقديم المعرض؛ حيث يشير إلى كون أعماله تنبع من "ملاحظة ورسم الحياة المعاصرة"، مضيفاً: "لا ترتبط هذه القِطع بمفهوم أو فكرة واحدة، بل تنبع علاقتها من كونها تعليقاً على الواقع الاجتماعي السياسي للفنان".
تتراكم طبقات اللون في تشكيل جديد لأمكنة عديدة يبدو بعضُها خارج بيروت؛ المدينة الأثيرة التي استحوذت على صاحب مجموعة "مراسم العزلة" (2011) في معارضه السابقة، حيث خيال المآتة منتصباً في أحد الحقول المترامية بألوانها البنيّة والخضراء، كأنه شاهدٌ على جمالها أو مؤنس لوحشتها.
وفي لوحة ثانية، يظهر خيال لطفل يشبك يديه فوق رأسه، وتتراءى خلفه سهول ممتدّة لا يحدّ أفقها سوى البياض الذي يلف آخر صف من الأشجار يظهر فيها. وفي أخرى، يلتقط بيتاً في منطقة ريفية نائية قرب تلّة وصفحةُ السماء تلوّنها الحمرة والزرقة اللتان تحيلان إلى آخر انحسارات الضوء.
لا شيء يعكّر سماءً أخرى في أحد أعماله سوى طائرة تُبرز تناقضاً حاداً بين الطبيعة وذلك الجسم الطارئ عليها، وهي لعبة تتكرّر حين يصوّر بناية لا تظهر إلّا أجزاء منها خلف الأشجار، فيما تطلّ من أعلى يمين اللوحة رافعةٌ تُستخدم في الإنشاءات، في دلالة على فعلها المهيمن على المكان والعابث به.
في حديث لـ"العربي الجديد"، يقول الباحث والناقد المغربي أشرف الحسّاني: "وأنت تنظر إلى لوحات أسامة بلعلبكي، يستيقظ فيك هسيس المدن التي زرتَها والتي ما زالت تئن فيك... صرخات الأصدقاء في الأماسي الباردة، الأضواء الكاشفة، الأزقّة المائلة إلى فوق، العالم الذي يزداد زرقةً وبهاءً في كلّ ثانية، الدروب التي عانقتَ خيباتها ومسرّاتها، الأطفال وهم يلعبون عند البئر القديم".
يضيف: "إنها أعمال متحرّرة من الرطانة الفنّية التي تُعيد تقديم الواقع بطريقة ساذجة، فهي تعمد إلى تصوير الإيقاع الخفي للمدينة، من خلال عملية التقطير اللوني لإضفاء طابع الفنتاستيك على اللوحة، وهي تقنية قديمة جدّاً نراها في أعمال فنّانين تشكيليين كبار؛ مثل فان غوخ وأدوار مونش ودييغو مويا".
"ثمّة سحر غريب في أعمال بعلبكي، يكمُن في طريقة تعامله مع المادة واللون"، بحسب الحساني الذي يلفت إلى أن "اللون يؤسّس فضاء اللوحة ويرفض أن يشتغل كموتيف فنّي وجمالي، لأن الفنّان لا يروم الاحتفاء بالمدينة كمادّة، بل بإيقاعها وأحلامها والمتواري فينا، فهو يعمد ببساطة إلى التنقيب في ذاكرتنا المشروخة وإعادة بناء متخيّلها، في محاولة الجري وراء الأضواء وإيقاع حياتنا الرتيب للقبض على وجودنا داخل اللوحة".
كيف يرى الفنّان ما يرسم؟ سؤال يجيب عليه بعلبكي في أحد حواراته بأنه يمارس الواقعية بـ"طريقة حدسية"؛ حيث يتحوّل "الخيال إلى عجينة ثم إلى عمل. ثم كأنه عملٌ أثَر. طبقاتٌ يُدفَن فيها المعنى، يدفن فيها الحِس. لذا لا أفرِّقُ بين جسد اللوحة ومضمونها. هما مسألة واحدة ونتاج هذا التخيُّل الحدسي".