رغم امتداده وتعدّد تقلباته ومنعطفاته، يكفي لتركيب تاريخ مصر في القرن العشرين أن نعود إلى عملين سرديّين فحسب: ثلاثية نجيب محفوظ، و"خماسية" أسامة أنور عكاشة، أي مسلسل "ليالي الحلمية" الذي أخرجه إسماعيل عبد الحافظ. عملان يمكن اعتبارهما موسوعة للأحداث والأماكن والشخصيات المصرية في القرن الماضي.
وفيما كان محفوظ يشتغل ضمن الرواية كجنس أدبي مكرّس، لم يكن عكاشة يُنسب إلى طائفة الكتّاب إلا من باب التجاوز، وإن كتب هو الآخر الرواية، غير أنه حُسب بالأساس ضمن "تقنيّي" الكتابة الدرامية، وهؤلاء ليسوا كتّاباً بالمعنى الشائع.
كانت إسهامات صاحب "أبو العلاء البشري" من خلال السيناريو أساساً، ورغم أن السيناريو ليس سوى عنصر من العمل الدرامي إلا أن أبوّة "ليالي الحلمية" وأعمال كثيرة أخرى كانت تنسب إلى عكاشة قبل المخرجين، على عكس ما يحدث مع معظم الأعمال الدرامية. هكذا، ومن نافذته الصغيرة، اقتلع صاحب "ضمير أبله حكمت" موقعاً أساسياً في المشهد.
عكاشة كان في المحصلة تعبيراً عن لحظة مصرية اكتملت فيها أدوات الصنعة التلفزيونية؛ فبين منتصف السبعينيات ومنتصف التسعينيات، وهي الفترة التي تطابق سنوات مجده، حققت المسلسلات درجات متابعة عالية وحظيت بثقة ومحبة الجمهور، ووصلت إلى درجة من التأثير الثقافي والنفسي في المجتمع المصري، ومجتمعات عربية أخرى، ما لم تحققه أبرز الأجناس الأدبية من رواية وشعر، كما لم تحقّق ذلك الأفلام والمسرحيات.
وإذا كانت "ليالي الحلمية" عمله الأبرز، فإنها مجرّد شجرة تحجب غابة، وقد حُجبت بشكل كامل كل إصداراته المكتوبة مثل مجموعته القصصية "خارج الدنيا" (1967)، ورواية "أحلام في برج بابل" (1973). أما أعماله الدرامية الأخرى، فقد حقّقت نجاحات مقبولة في العموم، مثل "أرابيسك" و"زيزينيا" و"عفاريت السيالة" والمصراوية"، وتميّزت بالجمع بين فئات مصرية متعدّدة ضمن حبكة واحدة، بما يجعل أعماله صوراً حية من المجتمع المصري، خصوصاً بين القاهرة والإسكندرية.
في كلّ ذلك، نجح عكاشة في أن يضع الكتابة الدرامية في مستوى الإبداع الأدبي، ويمكن تعميم ذلك على المرحلة التي عاشها بشكل عام، ففي زمنه أيضاً وضع آخرون أعمال بارزة مثل "رأفت الهجان" و"هو وهي" و"هوانم غاردن سيتي". بعد ذلك، بدت الدراما المصرية وقد فقدت صوتها في متاهة الفضائيات. ربما حتى المجتمع المصري الذي كان ينهل منه الكتّاب الحكايات والشخصيات فقَد صفاءه.