تعيش ثلاثة أحزاب سياسية مغربية كبيرة في الوقت الراهن "أزمة" على مستوى قيادتها، وهي "العدالة والتنمية" الذي يقود الحكومة بعد تصدره الانتخابات البرلمانية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، و"الأصالة والمعاصرة" (معارض) الذي جاء ثانياً في الانتخابات، ثم "الاستقلال" (معارض) الذي تبوأ المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية الماضية.
حزب الاستقلال، أعرق الأحزاب السياسية في المغرب بالنظر إلى تأسيسه في 11 يناير/كانون الثاني 1944، بات يواجه أزمة حقيقية على مستوى القيادة، في خضم إصرار حميد شباط على الترشح للمرة الثانية لزعامة الحزب، ورفض الكثير من القيادات لهذا الترشح، وظهور اسم آخر، هو نزار بركة، يحظى بكثير من القبول لدى دوائر الدولة. واتخذ مسار قيادة حزب الاستقلال منحى مثيراً ومليئاً بالمفاجآت والأحداث منذ انتخاب حميد شباط على رأس هذه الهيئة السياسية في سبتمبر/أيلول 2012، إذ تميزت مرحلة قيادته لحزب "الميزان" بعدد من المواجهات والقرارات الحاسمة والساخنة.
وفي مرحلة قيادة شباط لحزب الاستقلال، خرج قياديون لتشكيل تيار مناهض للقيادة، أطلقوا عليه اسم "بلا هوادة"، وطالبوا بتنحي حميد شباط عن الزعامة، واتهموه بانتهاج سياسة شعبوية، وضرب القيم التي تأسس عليها "الاستقلال"، بل وصل الأمر إلى طعنهم أمام الأمانة العامة للحزب في انتخاب شباط، لكن محكمة النقض حسمت القرار لفائدة "الميكانيكي" الذي تحول إلى أحد أشهر الوجوه السياسية والحزبية في المملكة. أحد القرارات المثيرة للجدل التي بصم عليها شباط، والتي أثارت رفض قيادات تيار "بلا هوادة"، هو خروج حزب الاستقلال من النسخة الأولى لحكومة عبد الإله بنكيران في مايو/أيار 2013، ما دفع هذا الأخير إلى انتظار عدة أشهر قبل تعويض "الاستقلال" بحزب الأحرار. وجر قرار الانسحاب من الحكومة على شباط الكثير من المحن، ما زالت تداعياتها تكبر حتى اليوم، إذ اتهمته قيادات وازنة داخل الحزب، منها عبد الواحد الفاسي وكريم غلاب، بكونه كان يسعى وراء الخروج من الحكومة لتحقيق "أجندة خاصة" لم يكن يعلمها سواه، ومن أوحى إليه بهذا القرار لوضع العصا في عجلة حكومة بنكيران حينها.
كرة حارقة أخرى جاءت في طريق شباط عصفت بما تبقى لديه من قوة وحضور داخل حزب الاستقلال، وهي تصريحاته المثيرة للجدل بشأن الحدود الترابية لموريتانيا، إذ قال، قبل أشهر، إن موريتانيا جزء من التراب المغربي تاريخياً، ما جر عليه سخط دوائر عليا في البلاد. هذه التصريحات جاءت وقتها في مرحلة تشكيل بنكيران للحكومة الثانية، بعد فوز حزب العدالة والتنمية، بالانتخابات التشريعية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016، إذ كان بنكيران يرغب في إدخال شباط إلى الحكومة، قبل أن تندلع عاصفة سياسية بسبب تصريحاته حول موريتانيا. ويبدو أن لسان شباط قد جر عليه "نقمة" صناع القرار في البلاد، فتطورت الأحداث في اتجاه رفض مشاركة حزب الاستقلال في الحكومة. وتزعم هذا المطلب زعيم "الأحرار"، عزيز أخنوش، قبل أن يتم إعفاء بنكيران من طرف العاهل المغربي، الملك محمد السادس. ودفعت مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة حزب شباط إلى الحائط، بعدم قبول مشاركته فيها.
كل هذه التطورات ساهمت في إنزال أسهم شباط بشكل كبير ومدوٍ أيضاً، إذ إن قيادات مقربة منه طالبته بعدم الترشح لقيادة الحزب لولاية ثانية خلال المؤتمر الوطني السابع عشر الذي سيعقد أواخر سبتمبر/أيلول الحالي، غير أنه أعلن تمسكه بالترشح ضد خصمه نزار بركة، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي وإحدى القيادات الرافضة لزعامة شباط. وتحول الحزب العريق من حزب موحد الكلمة والمواقف والرؤى، إلى حزب تطغى عليه التجاذبات السياسية والشخصية التي لم يعشها من قبل، خلال أوج ازدهاره السياسي، خصوصاً في عهد مؤسسه الزعيم الراحل، علال الفاسي، أو خلال مرحلة القائد الراحل، أمحمد بوستة. ويصر شباط على ما يسميه "الصمود" في وجه خصوم حزب الاستقلال، متهماً أجهزة الدولة بالتضييق عليه، حتى لا ينال قيادة الحزب لولاية ثانية، وبكونها تدبر مؤامرة من أجل الإطاحة به من المشهد السياسي في البلاد. وخلال حملته الإعلامية التي يقودها للظفر بمقعد الأمين العام لحزب الاستقلال لولاية ثانية على التوالي، استخدم شباط مدفعيته الثقيلة في وجه ما سماه "المخزن"، منبهاً إلى أن المخزن هو "الدولة العميقة" وليس المؤسسة الملكية.
في المقابل، يسير نزار بركة بتؤدة نحو الترشح والفوز بقيادة حزب الاستقلال في المرحلة المقبلة، رافعاً شعار "حزب الاستقلال اليوم وغداً"، منتقدا فترة ولاية شباط، التي قال إنها كانت أسوأ قيادات الحزب منذ إنشائه، وحمله المسؤولية عما سماه اندحار مكانة الحزب، سياسياً وأخلاقياً. ويرى مراقبون كثيرون في "عزلة" شباط، التي بات يعاني منها، حتى من أقرب القيادات التي كانت تسانده، بل من الصحيفة الناطقة باسم الحزب "العلم" التي تجاهلت نشر أي خير عن ندوة صحافية عقدها أخيراً، نوعاً من "انتقام" الدولة من شباط وتصريحاته الجريئة وغير المحسوبة العواقب. ولمّح شباط نفسه كثيراً إلى هذا المعطى، حين قال إن أجهزة وزارة الداخلية تستهدفه شخصياً، وإن ذلك حصل بعد أن رفض الدخول في "صفقة" في اليوم الذي أعقب الانتخابات التشريعية مع أحزاب أخرى خططت للإطاحة ببنكيران. هذا التأويل لمصير شباط في قيادة حزب الاستقلال يراه مراقبون آخرون مجانباً للصواب، وأن عزلة شباط طبيعية ولا علاقة لها بأي انتقام للدولة من زعيم "الميزان"، باعتبار أن الأمر مرتبط أساساً بتطور مجريات الأحداث ومفاوضات الحكومة، وبخريطة التحالفات الحزبية الجديدة، لكن أيضاً برغبة الدولة في إنهاء زمن "الزعماء الشعبويين".