أزمة سد النهضة: انفراجة مشروطة وبيانات متناقضة

27 يونيو 2020
ستبدأ إثيوبيا ملء خزان السد بعد أسبوعين(إدواردو سوتيراس/فرانس برس)
+ الخط -
لم تكن حصيلة القمة الأفريقية المصغّرة والطارئة، التي عُقدت افتراضياً، مساء أول من أمس الجمعة، لمناقشة قضية سد النهضة واضحة. فالقمة التي عُقدت بدعوة من الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، وبمشاركة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، ونظيره السوداني عبد الله حمدوك، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي، وعدد من الزعماء الآخرين، توصّلت إلى تحقيق انفراجة مؤقتة بترحيل ملء السد، من دون أن تكون محسومة إمكانية التوصل إلى اتفاق ملزم، يرضي الأطراف الثلاثة (السودان، مصر، إثيوبيا) حول قواعد ملء السد وتشغيله.
الاتفاق الأساسي الذي تمخضت عنه القمة مكوّن من ثلاثة أقسام، أولها إعطاء فرصة للاتحاد الأفريقي والمنظومة القارية لإدارة الأزمة بدلاً من مجلس الأمن، وإخطار الأخير بذلك في جلسته المقرر عقدها للنظر في الشكوى المصرية غداً الاثنين. القسم الثاني هو العودة الفورية إلى مفاوضات فنية وقانونية مكثّفة تستمر لمدة أسبوعين، وتنتهي باتفاق كامل وملزم على قواعد الملء والتشغيل. أما القسم الثالث، فهو عدم مبادرة إثيوبيا إلى الملء الأول للسدّ الآن، والانتظار حتى التوصل إلى هذا الاتفاق النهائي خلال المدة المحددة.

"انتصار" مصري
وقد ركزت مصر في بيانها الرئاسي بعد الاجتماع، على إظهار تحقيقها انتصاراً دبلوماسياً بمنع إثيوبيا من الملء من دون اتفاق، وبأن الاتفاق الذي سيجري التوصل إليه سيكون ملزماً. وهما الأمران اللذان كانت تطالب القاهرة مجلس الأمن بإصدار قرار بشأنهما بالفعل، ما أدى إلى حالة من الارتياح والتباهي في الإعلام المصري وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي للشخصيات القريبة من السلطة وأجهزتها. أما السودان، فركز في بيانه على النقطة التي كان يطالب بها أيضاً ورفع بشأنها خطاباً لمجلس الأمن، وهي عدم الملء من دون التوصل إلى اتفاق نهائي، لكنه لم يفصح عن تفاصيل الخطوات الإجرائية لاستئناف المفاوضات الفنية. وجاء تطابق بيان السودان في مضمونه مع بيان مصر، لتنطلق عاصفة من الانتقادات الإثيوبية لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، عبر مواقع التواصل الاجتماعي واتهامه بالتفريط في حقوق بلاده. أما مفوضية الاتحاد الأفريقي التي كانت مصر ترفض مراراً اقترابها من الملف بسبب تأييدها للادعاءات الإثيوبية وعدم إظهار الموضوعية في مقاربة الأزمة، فركزت في بيانها على الشكل، لا على المضمون. فأعلنت أن الاتحاد الأفريقي هو من سيتولى مهمة الوساطة لحل الأزمة، قاطعة الطريق ضمنياً على مجلس الأمن لمباشرة دوره استجابة للطلب المصري، وهو ما كانت المفوضية تسعى إليه منذ إحالة الشكوى المصرية على المجلس، وعملت عليه جنوب أفريقيا بصورة حثيثة خلال الأيام الماضية، كما نشرت "العربي الجديد" في عددها الصادر أمس، لقطع الطريق أمام تدخل المجلس في شأن أفريقي خلال رئاستها للاتحاد هذا العام.
وعلى النقيض، جاء البيان الإثيوبي ليشرح ذات الاتفاق، ولكن برواية أخرى وبعبارات تحمل معنى "التأجيل المحدود" و"الامتناع المؤقت لا المنع"، والتأكيد أن أديس أبابا ما زالت ممسكة بناصية الأمور. فتحدث بيان أبي أحمد، صباح أمس، عن "ملء سد النهضة خلال أسبوعين، وتواصل أعمال البناء فيهما، وخلالهما ستصل الدول الثلاث إلى اتفاق نهائي حول البنود العالقة"، بينما قال وزير الطاقة والمياه سيليشي بيكيلي، إن "كل الأطراف ستعمل على التوصل إلى اتفاق خلال فترة من أسبوعين إلى ثلاثة".

إصرار إثيوبيا على الملء
بدورها، أعلنت الحكومة الإثيوبية في بيان منفصل، بدا وكأن لا علاقة له بالمفاوضات على الإطلاق، انطلاق التحضيرات العملية لملء السد بتطهير غابات على مساحة ألف هكتار لمدة أقل من شهر، وذلك استعداداً لتخزين المياه خلف السد. وهو المشروع الذي كشفت "العربي الجديد" تفاصيله مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، حين أطلقت وزارة المياه والطاقة حملة لتشغيل الشباب والرجال على مستوى البلاد، وخصوصاً من ولاية بني شنقول، التي يقع فيها السد، وولايتي أوروميا وأمهرة، كعمالة مؤقتة، في أنشطة مرتبطة ببدء الملء وتطهير المياه وإزالة الغابات في المنطقة المتاخمة لمجرى النيل، بغية تقليل نسبة المياه المفقودة وتحقيق الاستفادة القصوى من المياه المتدفقة.

ويعكس هذا التباين في البيانات، أن كل طرف يفسر ما حدث خلال الاجتماع بطريقة تخدم مصالحه وتحسّن صورته أمام شعبه أو أصحاب المصلحة، آخذاً بالاعتبار الاضطراب الشديد المسيطر على الشارع المصري، منذ إعلان فشل المفاوضات الفنية الأخيرة، وكذلك الصعوبات السياسية التي تواجه أبي أحمد داخلياً بسبب قراره تأجيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في أغسطس/ آب المقبل إلى أجل غير مسمى. ويعاني أحمد من الضغط المستمر الذي تمارسه عليه "جبهة تحرير تيغراي"، أقوى حزب معارض لحزبه الحاكم "الرفاه"، والتلويح بإجراء الانتخابات في الأقاليم التي تحكمها الجبهة والمزايدة عليه باستمرار في قضية سد النهضة، فضلاً عن اتهامه بين الحين والآخر بالتسبب في تأخير تشغيل السد، وهو ما كان سبباً لجدال واسع بينه وبين نواب في البرلمان في اجتماع عُقد مطلع الشهر الحالي.

في السياق، قال مصدر سياسي إثيوبي مطلع لـ"العربي الجديد"، إن الخطاب الرسمي الداخلي يركز على فكرة "إلقاء الكرة في ملعب مصر، فعليها المساعدة في التوصل إلى حل نهائي، كما تريد، خلال أسبوعين أو ثلاثة، وإلا فإن إثيوبيا ستكون في حلّ من التفاوض"، الأمر الذي يختلف عن طبيعة تفسير مصر والسودان للتطورات. وأشار المصدر إلى أن حزب أبي أحمد أرسل تعميماً إلى إداراته في الأقاليم بعد انتهاء الاجتماع بساعات للرد على اتهامات "جبهة تحرير تيغراي"، والتأكيد أنه سيُبدأ بملء السد قبل نهاية شهر يوليو/ تموز المقبل، ريثما تتقدم عملية تطهير الغابات.

ووفقاً لمصادر دبلوماسية مصرية تواصلت معها "العربي الجديد" عقب الاجتماع، فإن التطور الأخير يحمل ربحاً مؤقتاً وخسارة مؤقتة لكل طرف، ما يستدعي المضي قدماً في إجراء مفاوضات جادة، تنتهي بعلاج دائم لكل الإشكاليات التي من الممكن أن تظهر لاحقاً، حتى لا تدخل الدول الثلاث في هذه الدائرة المأزومة نفسها بين الحين والآخر، ما يستهلك كثيراً من الوقت والجهد والمال. فمن ناحيتها، نجحت مصر في كسب إرساء قاعدة واعتراف من إثيوبيا بضرورة التوصل إلى اتفاق نهائي "وملزم" قبل ملء السد، لكنها في الوقت نفسه وضعت نفسها تحت ضغط الوقت، وكأنها الطرف الذي كان يسعى إلى الإرجاء المستمر للاتفاق. فلا يوجد اتفاق واضح على ما يمكن فعله إذا مرت مهلة الأسبوعين من دون التوصل إلى اتفاق، ما يفتح الباب أمام التلاعب الإثيوبي مرة أخرى والمبادرة فوراً إلى ملء السد إذا انقضت المدة المذكورة دون تحقيق تقدم، وهو أمر وارد الحدوث في ظل السوابق الإثيوبية العديدة.



وبحسب المصادر، فإن مصر في بداية الأسبوع الماضي لم تكن متحمسة على الإطلاق للانخراط في مفاوضات جديدة مع إثيوبيا، وتحديداً على أرضية أفريقية، رغم سابقة الدعوة إلى ذلك من مفوضية الاتحاد الأفريقي وجنوب أفريقيا. لكن ما دفع مصر إلى قبول هذه الوساطة والمشاركة في القمة، المؤشرات "غير الإيجابية" للمساعي المصرية في نيويورك لحشد أصوات أعضاء مجلس الأمن لتأييد مشروع القرار المصري المدعوم أميركياً، الذي يدعو إثيوبيا إلى عدم الملء قبل التوصل إلى اتفاق، على أن يكون ملزماً، وأن يتضمن آلية دائمة لحل المنازعات.

وأضافت المصادر الدبلوماسية أنه حتى قبل عقد القمة المصغرة بساعات، كانت مصر تضمن ما لا يزيد على 7 أصوات فقط داخل مجلس الأمن، ما يعني أن أي تصويت غداً الاثنين، كان سينتهي لغير مصلحة مصر، ما سيضعها في مأزق حرج، وقد يعصف بحقها ويعطي أفضلية تفاوضية كبيرة للإثيوبيين، الأمر الذي كانت مصادر حكومية مصرية قد أشارت إليه في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد"، باعتباره من السلبيات المتوقعة للجوء إلى مجلس الأمن، بل كان هذا السيناريو أحد أسباب تحذير شخصيات قانونية ودبلوماسية للنظام الحاكم منذ بضعة أشهر من اتخاذ خطوة الشكوى الرسمية، لأنها تستنفد عناصر الضغط المصري من جهة، وتضع القاهرة في مواجهة جدية مع أديس أبابا من جهة أخرى.

وذكرت المصادر أن مصر قبلت بالانخراط في جولة التفاوض الجديدة، على أمل أن يتحقق أمر من اثنين: إما أن تتراجع إثيوبيا عن تعنتها، وتظهر نية حقيقية لحلحلة الموقف باتفاق يراعي حقوق المصريين فينتهي الأمر، وإما أن تزيد إثيوبيا من تعنتها، فتفشل المفاوضات وتكون بذلك أمام دول مجلس الأمن دلائل جديدة على مخالفتها روح التفاوض وتعمدها الإضرار بمصر. بالتالي يقوى موقف الأخيرة أمام الدول التي ما زالت تجد حرجاً في التدخل في الأزمة، أو ترى عدم اتخاذ مواقف تفقدها فرصاً استثمارية في إثيوبيا أو تظهرها كعقبة أمام التنمية في أفريقيا.

منع تدويل القضية
وارتباطاً بهذا الأمر، كشفت المصادر أن اجتماعاً عُقد بين عدد من ممثلي الدول النامية والصين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الساعات السابقة على عقد القمة المصغرة، وجرى التوافق بين تلك الدول على تأييد حق إثيوبيا في التنمية ومطالبة الصين (عضو دائم) بمنع تدخل مجلس الأمن في الأزمة، باعتبارها شأناً أفريقياً، وهو ما يصبّ في المسار نفسه الذي كانت تروج له الصين وجنوب أفريقيا (عضو غير دائم) طوال الأيام الأربعة الماضية، لقطع طريق تدويل القضية على مصر.

وعلى المستوى الفني، كشف مصدر حكومي مصري في وزارة الري، أن التفاوض مع الإثيوبيين من جديد "سيكون شاقاً"، مبدياً تخوّف الدوائر الفنية المصرية، وخصوصاً في الوزارة، من قبول الدولة بصيغ تختلف عمّا اتُّفق عليه في واشنطن قبل انسحاب إثيوبيا من المفاوضات نهاية فبراير/ شباط الماضي. وأضاف المصدر أن اللجان الفنية ستستأنف اجتماعاتها بالتوازي مع اللجان القانونية، بغية التوصل إلى صياغات سريعة، لافتاً إلى أن المفاوضات الماضية انتهت بالاتفاق فقط على قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم، وموعد تطبيق تلك القواعد. وهي لا تتعارض مع البنود التي ما زالت في إطار التفاوض، والتي هي بطبيعتها أكثر تفصيلية، وأبرزها منسوب المياه المطلوب ضمان استمراره لبحيرة سد النهضة في حالات الشح المائي والجفاف الممتد.

وسبق أن قدمت مصر مصفوفة توضح أن التدابير التي تضمنتها مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت عليها مصر منفردة، تُبقي منسوب المياه، إذا توافرت كل حالات الاستثناء من جفاف وتمرير لأعلى نسبة مطلوبة من المياه، عند 605 أمتار تقريباً، علماً بأن نقطة الجفاف النظرية هي 603 أمتار. وأوضحت المصفوفة أيضاً أن تمرير كمية تراوح بين 37 ملياراً و38 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف، ستُبقي السد ممتلئاً بكمية تصل إلى 23 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي تماماً لتوليد الطاقة الكهربائية المطلوبة، الأمر الذي يتعنّت فيه الإثيوبيون.


المساهمون